الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:40 AM
الظهر 12:38 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:17 PM
العشاء 8:37 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

هستيريا

الكاتب: نجوى بركات

أحبّ المنظّفات والمبيّضات ومواد التلميع والتعقيم والحفّ والمسح والنقع، على أنواعها، للجلي والأرضيات والحمّام، السائلة منها أو الجافة، البودرة أو الخشنة، الملوّنة والبيضاء، ذات الروائح الزكيّة التي تروح من اللافندر والليمون والتفاح، إلى شذى المحيط أو العشب وباقات الزهور، أو تلك الحادة القارصة التي تُدمع العينين، وتُسيل المخاط وتمزّق الحنجرة. أما بطلي من دون منازع ضمن هذه المجموعة الهائلة من الماركات والأسماء، فهو قطعاً "ماء جافيل" الذي أفضّله بحلّته الكلاسيكية، أي صافياً لاذعاً، لا تشوبه تلك النكهات المعطّرة الحديثة التي أضيفت عليه، لاحقاً، لتحسين صورته. وفي أحيان كثيرة، أفكّر، أنا التي أتزوّد منه بعبوات قد تصل إلى عشرات، لمَ لمْ يخطر ببال الشركات المصنّعة إلى الآن أن تخترع عبوة بخّاخة صغيرة، خاصة بحقائب اليد أو بالجيب، بحيث يمكن للسيدات من أمثالي حملها بكتمان، وهو ما سيساعدهن حتماً على الشعور بالأمان، في كل الظروف المستجدّة والمناسبات، خصوصاً في أيامنا النتنة هذه.

يسيء إليّ موظف البلدية، ولا يستجيب لنداءاتي المتكررة بأن رصيف بيتي، الواقع في الطابق الأرضي، مأهول دوماً بسياراتٍ متوقفة، تجعل فتح باب الشرفة أمراً شبه مستحيل. في حين أنه استجاب، في يوم واحد، لطلب الشقة المجاورة المشابهة تماماً لشقتي، فوضع عامودين بسلسلة حديديةٍ تصل بينهما، يمنعان وقوف السيارات على الرصيف. وحين أتنحنح، وأخاطبه بلغة القانون، مصرّة على أن الأرصفة صنعت للمشاة، لا للسيارات، يرفع عينيه بتثاقل، من على ورقته، لينظر إليّ شذراً، قبل أن يقيسني من فوق إلى تحت، ثم من تحت إلى فوق، قائلا: شو، هيئتك مش عايشة هون.

أركض إلى صديقي الصدوق "أجاكس العجيب"، أبثه خيبتي وقهري، قبل أن أتوجه بصحبته إلى الحمّام، مغرقة إياه بالبودرة السحرية التي يصدر احتكاك حُبيباتها بالبورسلين صريراً شافياً، قبل أن تغرق بدورها تحت دلاء الماء.

وحين تنتهي عملية القحط والتنظيف، وتعود الأشياء إلى أماكنها، إلى عهدها الأول، متنفسّة الجـِدَة والنظافة والترتيب، تستكين روحي وتهدأ أعضائي، وكأنها، هي الأخرى، قد غُسلت من نتن العيش في مدينةٍ تتالت عليها طبقات الأوساخ، لتتكلّل من ثم، في لحظة ذروةٍ، بأزمة النفايات.

يتكرّر الأمر مع سائق السرفيس، وموظف الأمن، مع مدرّسة ابنتي ومع مديرتها، مع شركاء في العمل، مع الحانوتي وبائع الخضار والخباز، مع أشخاصٍ من كل الفئات والمستويات، ولا أراني أسمع غير هذه العبارة "شكلك ما كنت عايشة بلبنان".

أجل، هذا صحيح، فأنا على الأقل لم أكن أعيش في هذا "اللبنان" الذي أوقعني في هستيريا التنظيف، والذي كان، في نسخته القديمة، على الرغم من كل أذاه، أقل قذارة مما هي حاله الآن.

ثم جاءني حلمٌ صار يتردد عليّ بانتظام، فصرتُ أرى أني أرتدي ثياباً ضيقة سوداء، وأحمل على ظهري كيساً عملاقاً أصعد به درجاً لولبياً لمنارةٍ مرتفعةٍ تطل، بشكل بانورامي، على المدينة كلها. وإذ أفتح الكيس العملاق، أجده ملآن بأصناف المنظفات والمعقّمات والمبيّضات، فأرفعه وأدلقه من علٍ، ثم أقف أتفرّج كيف تكسو محتوياته المدينة بأكملها، كيف تتحلّل الأشياء تباعاً مكوّنة سيلاً هادراً من القذارات، يجرف معه كل ما يقف في طريقه: البيوت، وسائل النقل، الأشجار. وحين أجد أن الوضع يائس، وأن المدينة بأسرها تسيل غارقةً في وحولها، أراني أصعد على الحافة، ملقية نفسي في النهر.

إلا أني، وفي اللحظة الأخيرة، اللحظة التي تسبق ارتطامي بالأرض، أستفيق، وأسمع الباب يقرع، فأنهض متعجلةً لأفتح، وإذا به محمد، جامع القمامة السوري، ينبئني بأن فيزا اللجوء قد وصلت إليه أخيراً، وأنه لن يجمع الزبالة بعد الآن.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...