الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:33 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:20 PM
العشاء 8:41 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

إجازة لبحر غزة

الكاتب: سما حسن

مع بداية الخريف وقرب الشتاء، سيخرج في إجازة، وقد تأخرت في الكتابة عن مأساته، لربما يقرؤها قبل أن يخلد لبياته الشتوي، الذي لن يقضه سوى قوارب الصيادين الذين يبحثون عن الرزق من بطنه، تطاردهم بوارج الاحتلال. لعلك تسخر منهم أو لعلك تغضب في مدك وجزرك، فلماذا وأنت البحر الأبيض الكبير صرت هنا صغيراً محدوداً؟!

البحر بالنسبة لي كفتاة فتحت عينيها عليه، منذ ولدت في أحد مخيمات القطاع، كان يوماً من السنة نقضيه على الشاطئ مع العائلة، حيث لا تتوقف أمي عن التذمر؛ لأن ملابسنا تتسخ، ولأن الطعام الذي نحمله معنا في هذه الرحلة يختلط بحبات من رماله الصفراء، ولذلك كنا قليلاً ما نطالب أبي وأمي بأن نخرج في نزهة على شاطئ البحر.

كنا نخرج مكرهين، حين كان أقاربي يفدون من الخليج في إجازة الصيف، شوقاً وحنيناً للاستجمام على شاطئه لأيام وليس ليوم واحد، فنضطر لمرافقتهم وأن نكون أدلاء ودليلات سياحيين لهم، وكنت أتعجب في قرارة نفسي من فرحهم وانشراحهم حين يخرجون من الماء مبللين ومنهكين، وحين يلتهمون الطعام المخلوط بحبات رمال كثيرة، وأمي تجلس على مقربة منهم وتخفي امتعاضها.
بالنسبة للوالدين والأجداد والجدات، كان بحر غزة واسعاً، وجميلاً. كانت غزة حاضرة تنوير ثقافي، مثل شقيقاتها على البحر، من يافا إلى عكا، ولكن للأسف فقد نكبت غزة الابنة بنكبة الأم فلسطين، فصارت وطناً صغيراً.

قصة البحر هي قصة تاريخ غزة الحديث والمعاصر، وهي قصة الثقافة والحضارة. الرفاهية وشظف العيش. الاستجمام والخوف. الانفتاح الليبرالي الفكري والانغلاق.

قبل الحصار، كنت أسافر إلى مصر في نهاية العام الدراسي بصحبة عائلتي لنقضي الإجازة الصيفية في القاهرة، ونشعر كأننا في وطننا الثاني، ونلقى الحفاوة والترحيب من الشعب المصري بكل فئاته؛ فغزة هي الشقيقة الصغرى ومصر هي الحاضنة التي ظلت تفتح قلبها وأرضها لنا.

حين أطبق الحصار منذ عقد كامل على مليوني مواطن في غزة، وأصبح البحر قبلة وحيدة ولا خيارات غيرها لهؤلاء المحاصرين/ات وأنا منهم مع عائلتي الصغيرة، صرنا نهرع له حين يشتد الحر وترتفع نسبة الرطوبة في بيوتنا، وحيث انقطاع الكهرباء يلاحقنا ونعيش أزمة مستمرة موجعة مع ساعات قليلة لوصل للكهرباء يقابلها ساعات قطع طويلة، فنحمل متاعنا وطعامنا ونلجأ إلى الشاطئ، ونجد جموعاً غفيرة قد سبقتنا إلى هناك، لأكتشف أني لم أعد قادرة على ملامسة مائه ولا الجلوس في مكان مفتوح على شاطئه بسبب الازدحام، فالجميع فرّ هرباً من انقطاع الكهرباء والجو الحار، والجميع يبحث عن موطئ قدم على شاطئ لطالما كان واسعاً وفسيحاً وأصفر اللون، ولكن الحال تبدل؛ فالنعمة التي «تبطرت» عليها ذات يوم ولم أشعر بقيمتها، قد جاء الوقت لكيلا أستطيع أن ألمسها.

بعد أن فقد أهل غزة متعة مشاهدة التلفاز مع حركة مراوح السقف الرتيبة، وحركة أفواههم وهي تلوك الفستق والترمس، حيث يتسامرون ويتبادلون الزيارات في بيوتهم، أصبح اللقاء بين الأصدقاء والأقارب على شاطئ البحر، بل هرب أصحاب الأعمال إلى الشاطئ لعقد ندواتهم وورشات العمل الخاصة بمشاريعهم.

بحر غزة أصبح شاطئاً للمنتجعات والكافيهات والكافتيريات،حيث شهد إقامة ما يزيد عن 84 مطعماً وفندقاً فخماً، مقارنة بما كان عليه قبل عشرين سنة مثلاً، حيث كان عدد الفنادق على شاطئه لا يزيد على ثلاثة فنادق شهيرة، حل في أحدها غسان كنفاني نزيلاً حين زار غزة، ولم تترك وسيلة لأخذ دخل المواطنين إلا ولمحتها على الشاطئ الممتد حتى الحدود مع مصر من الجنوب، والحدود مع مناطق 1948 من الشمال. هناك عربات بيع الذرة المسلوقة، والفول، والشراب والمثلجات، وساندويشات الكبدة والكباب، والحناطير التي يركبها المصطافون تجرّها الجمال والأحصنة.

قصة البحر هي قصة تاريخ غزة الحديث والمعاصر، وهي قصة الثقافة والحضارة. الرفاهية وشظف العيش. الاستجمام والخوف. الانفتاح الليبرالي الفكري والانغلاق؛ فما هبطت هنا من تحولات سياسية واجتماعية إلا وأصابته ورسمت على شاطئه الحكايات.

بحر غزة الذي كان لي ولكثيرين مقصداً مرة في العام، أصبح يضيق بالناس الذين يعقدون عقود زواج عرفي معه طيلة أيام الصيف، فلا يفارقونه ويوهمون أنفسهم بأنه متعة لا تنضب وشغف لا ينتهي، والحقيقة أن البحر فقد ملامح جماله، وبات مشتكياً ومنتهكاً؛ لأنه لم يعد قادراً على مد موجه على الرمال، حيث امتدت الأعمدة الخرسانية وسط مائه، ولم يعد شامخاً مخيفاً رهيباً كما كنت أتخيله في صباي، بل أصبح عجوزاً لا تسمع له شكوى وتغطيه الأجساد المتعبة المكتنزة فلا يلمح دمعته أحد.

لعل البحر يعود من إجازته الشتوية والرمزية، لعل الأيام تعود وتكرر سرور الناس هنا، لكن بعيداً عن دورة التاريخ الثانية التي عادة ما تكون ساخرة!

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...