في القدس

الكاتب: خالد بطراوي

لم أكن يوما من الأيام من المعجبين أو المتحمسين أو المرددين للمدارس الثقافية التنفيسية ومنها على سبيل المثال لا الحصر مدرسة دريد لحام التي كانت توجه انتقادات ساخرة للأنظمة العربية وبضمنها النظانم السوري في أعمالة الفنية كمسرحية " غربة" و " ع الحدود" وغيرها حيث كانت تطرح شعارات وحدوية قومية تدغدغ عواطف الشعب العربي التواق الى الوحدة العربية.

ولم أكن أيضا أصفق للشاعر العراقي الكبير الراحل مظفر النواب عندما ألقى قصيدته التي جاء فيها أن " القدس .. عروس عروبتكم .. فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها ... ووقفتم تسترقون السمع لصرخات بكارتها .. ورجوتموها أن تسكت صونا للعرض ... أولاد القحبة .. هل تسكت مغتصبة ؟ ..... " الى أن يصل الى مقطعه الذي صفق له " ثوريو العالم العربي وهو يقول " تتحرك دكة غسل الموتى ... أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة".

لكن الذي استوقفتي كثيرا، جمالية قصيدة الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي وهو يصف القدس، وتحديدا الحركة في البلدية القديمة وشوارع القدس العتيقة ليصل الى جملته الرائعة مخاطبا أهل القدس بالقول " لا تبكي عينك أيها العربي .. واعلم انه في القدس من في القدس .. لكن لا أرى في القدس إلا أنت".

هذه المقالة أيها الاحبة، هذه الهلوسة، ليست موجهة لكم بشكل خاص أيها الرابضون في القدس وفي أكناف القدس .. لأنكم تعيشون الواقع بينما نحن متفرجون ... هذه المقالة موجهة بشكل أساسي للرسميين العرب والفلسطينيين وكل من يناصر الشعب الفلسطيني ولقادة المسلمين والمسيحيين في العالم اجمع.

هناك يا من أكتب لكم هلوستي منطقة تقع ما بين مدينة البيرة التوأم لمدينة رام الله وجدار الفصل العنصري حيث الحاجز العسكري الاسرائيلي ( المسمى معبر قلنديا) الذي يمنع كل الفلسطينيين من الزحف زحفا الى القدس، هذه المنطقة تسمى منطقة كفر عقب ومحيط مخيم قلنديا للاجئين ومساحتها صغيرة جدا جدا ولا تزيد عن عشرين كيلومترا مربعا.

هذه المنطقة المكتظة بشكل غير معقول بأهالي القدس الذين يتمسكون بمواطنتهم في القدس كما القابض على الجمر، لديهم الاستعداد للعيش في ظروف مزرية بل مزرية للغاية من أجل الصمود في القدس، ولا أحد يحب منهم هذا الوضع أو يسعى له أو يعشقه، لكن ليس لديهم خيارات أخرى.

في مدينة البيرة القريبة منهم والتي تبعد فقط كيلومتر واحد عنهم أو أقل، فان سعر الشقة ومساحتها حوالي 180 مترا مربعا قد تصل في أقصاها الى مائة وثمانون الف دولار لكنها بالمتوسط حول مائة وعشرون الف دولار في عمارة سكنية غير مكتظة بها مواقف للسيارات وخدمات لائقة.

أما في منطقة كفر عقب، حيث ارتفاع المباني يتعدى الأربع عشر طابقا، وحيث المباني المتلاصقة بعضها ببعض، لدرجة أنه اذا " عطس" أحدهم في شقة في بناية، فان جيرانه في البنايات المحيطة سيقولون له " يرحمكم الله"، فان مساحة الشقة لا تتعدى المائة وعشرين مترا مربعا، وتباع بما لا يقل عن مائة وعشرين الف دولار وتفتقد للخدمات الأساسية.

ومع ذلك يسرع أهلنا من القدس الى شراء الشقق هناك والعيش تحت وطأة ظروف قاسية تخلف العديد من المشاكل الاجتماعية فقط لأجل هدف واحد وهو الرباط في القدس، لأن المنطقة تعتبر ضمن الحدود التي يسمح الاحتلال بالعيش فيها كما لو أن المواطن المقدسي يقطن في القدس، في سعي منها لتفريغ المدينة من سكانها المقدسيين، لاتاحة الفرصة لليهود للانتقال والعيش في القدس.

يقول رفيقي نادر الذي يقطن قسرا وعائلته هناك، أنه كي يقطع مسافة لا تتعدى 4 كيلومتر من منزله الى مدرسة الاولاد فانه يتحتم عليه أن ينهض وأولاده  في الخامسة فجرا ويكونوا عند حاجز قلنديا الذي يبعد عن منزلهم أقل من كيلومتر واحد في الساعة السادسة والربع صباحا كي يتمكن من اجتياز الحاجز الى والوصول الى مدرسة الاولاد عند بداية الدوام في الثامنة صباحا.

هذه الحقيقة المفزعة، جعلتني اتأمل أولاد رفيقي نادر وغيرهم، وأتخيلهم ينهضون بتثاقل فجرا ويتوجهون شبه نيام الى مدارسهم ويعودون منهكين عند الغروب مثقلين بواجباتهم المدرسية التي ما أن ينهونها يكون قد حل موعد الاغتسال والعشاء والنوم، فأي طفولة يعيشون؟
قلت يا ولد يا مهلوس وأنت المهندس غير المقدسي ( مع أني من مواليد القدس) لماذا لا تبحث لرفيقك نادر عن سكن داخل القدس، اما استئجارا أو شراءا ، على الاقل ينام الاولاد ساعة نوم اضافية.

راعني أيها الأحبة المشهد، أن أردت داخل القدس استئجار شقة مساحتها أربعون مترا ليس أكثر فعليك أن تدفع مبلغ لا يقل عن 2500 شيكل أي حوالي 700 دولار أمريكي وتحتم اجراءات الاحتلال أن يكون في كل شقة غرفة ملجأ من دون نوافذ، وعليكم أن تتخيلوا هذه الشقة بالملجأ داخلها يقتطع من الأربعين مترا.

قلنا ما دام رفيقي نادر سيدفع هذا المبلغ الضخم الذي يشكل حوالي 65% من راتبه، لماذا لا نبحث عن شقة للشراء. وجدنا شقة مساحتها مع غرفة الملجأ 97 مترا مربعا، طلبت المالكة مبلغ 270 الف دولار عدا ونقدا وهي غير جاهزة للسكن أي ما زالت "عظم" بلغتنا الهندسية.
وعندما لجأت الى زميلي وتاج راسي المهندس هيثم باحثا عن شقة بسعر أرخص، قال لي أن شقة في القدس مساحتها حول المائة وعشرين مترا شاملة غرفة الملجأ وجاهزة سيصل سعرها في أقل تعديل الى أربعماية وعشرين ألف دولار أمريكي.

عدت الى رفيقي نادر وزوجته بهذه الحقائق التي يعرفونها، فضحكوا من محاولتي ورددوا في داخلهم مقطع أغنية أم كلثوم الذي يقول " انت فين والحب فين" وقال لي رفيقي نادر أن العائلة في القدس تضطر في غرف نوم الآولاد الى وضع أسرة الطابقين كي ينام الأطفال في الغرف ويترعرون ويكبرون على هذا الحال.

استنادا الى الصفحة الالكترونية لمحافظة القدس فانه في عام 2013" كان متوسط كثافة السكان العرب في كل غرفة سكنية يزيد بضعفين عما هو عليه الحال بين السكان اليهود، ولا تزال هذه المشكلة تشهد المزيد من التعقيد يومياً. يبلغ عدد المستوطنين المقيمين في القدس المحتلة دون وجه قانوني 200,000 مستوطنًا يعيشون في 55,000 وحدة سكنية. في المقابل، فرضت سلطات الاحتلال على الفلسطينيين الأصليين، والبالغ عددهم 303,429 مقيم، السكن فيما لا يتجاوز 46,000 وحدة سكنية. تشير آخر الدراسات (2013) إلى أن النقص في عدد الوحدات السكنية التي يحتاجها المواطنون المقدسيون لا يقل عن 60,000 وحدةً سكنية".

أما ونحن الان في العام 2017 فاننا نحتاج الى ما يزيد عن ستين الف حدة سكنية ونحتاج أيضا الى مثلها لعودة من غادر القدس الى اكنافها أي أننا نحتاج حاليا الى ما لا يقل عن مائة وعشرين الف وحدة سكنية ( مساحة كل منها 120 متر مربع) وسنكون في كل عام قادم بحاجة الى حوالي عشرة آلاف وحدة سكنية جديدة في القدس للازواج الفلسطينية المقدسية الشابة.

كيف أيها الأحبة في عالمنا العربي والاسلامي والمسيحي وكل مناصري القضية الفلسطينية نحقق ذلك؟  أي الحد الادنى من مقومات الرباط على أرض القدس بتوفير المسكن الملائم لكل مقدسي.

آقول لكم وبكل فخر واعتزاز بأن أهل القدس لا يتسولون ولا يريديون منكم نقودا غير مستردة، هم على أتم الاستعداد لتسديدكم أثمان الشقق على امتداد ثلاثين عاما قرضا حسنا دون فوائد.

اننا نحتاج الى حالة استنهاض لآجل تحقيق ذلك، ليس بتشكل صناديق لنصرة أهلنا في القدس تصرف اداريا على كادرها وموظفيها والقائمين عليها 40% تقريبا من مقدرات هذه الصناديق وتتقاضى فوائد كما البنوك. اننا بحاجة الى أن نسلم كل عائلة مفتاح شقتها في القدس فورا كي ينتقلوا اليها ويبدأوا بالتسديد الفوري لثمن هذه الشقة شهريا من الاجرة الشهرية التي كان يدفعونها.

نحن نحتاج حاليا الى ستين بليون دولار أمريكي لاعادة التوازن الديمغرافي في القدس، وسنحتاج سنويا الى خمسة بلايين دولار تكلفة الشقق الجديدة للاجيال المقدسية الشابة، وكل ذلك مبالغ مستردة على امتداد ثلاثين عاما أي " من دهنو قليلو".

في العام 2013 وفقا للشبكة المعلوماتية ونقلا عن مصادر مالية ماليزية ورد " أنه يجري التخطيط لإطلاق أول صندوق لاستثمار أموال الزكاة في مطلع العام القادم من خلال جمع 750 مليون دولار في العام الأول، وأن صندوق الزكاة العالمي جمع حتى الآن تعهدات غير ملزمة بقيمة 50 مليون دولار، ومن المتوقع أن ينمو حتى 10 مليارات دولار خلال السنوات العشر المقبلة.

والصندوق هو جزء من مبادرة للحكومة الماليزية ومن المقرر أن يبدأ بالاستثمار بعد سنة من إطلاقه، ومن المقرر أن يتم استثمار حتى 65 % من الأموال التي ستجمع بعوائد سنوية متوقعة مابين 10 إلى 15% بينما ستستخدم النسبة المتبقية في أعمال خيرية. ويستهدف الصندوق الاستثمار في وحدات الملكية الخاصة المتوافقة مع الشريعة الإسلامية وفي المشاريع الاجتماعية وفي مجالات الصحة وتطهير شبكات المياه والتعليم والإسكان. وتقدر مبالغ زكاة التي يدفعها المسلمون ما بين 20 إلى 30 مليار دولار سنوياً ".

لا أدري ما الذي حل بهذا الصندوق في ماليزا، لكن قد تكون هذه خطوة لتحرك فلسطيني نحو العالم الاسلامي والمسيحي والعربي وكافة مناصري القضية الفلسطينية كي يتم توفير دعم حقيقي وعملي لأهلنا داخل القدس.

أريد باختصار لأبناء رفيقي نادر وغيره من أطفالنا في القدس أن يعيشوا حياة أقل تعبا وأن يلعبوا بدلا من أن يتنقلوا عبر الحواجز الاسرائيلية الاحتلالية. ولا أريد للشاعر تميم البرغوثي أن يصفق الناس لأقواله " في القدس من في القدس .. ولكن لا أرى في القدس الا أنت " ولا يفعلون شيئا حيال أن نكون نحن جميعا في القدس.

ومريت في الشوارع .... شوارع القدس العتيقة ... قدام الدكاكين .. الـ بقيت من فلسطين".