هنا في «طليطلة» استعاد شعراء عرب ملامح من مأساة أندلسية معاصرة

2017-09-10 03:23:29

ليس مهرجان توليدو (طليطلة عربياً) الشعري نسخة جميلة فقط عن مهرجان «أصوات حية» المتوسطي الذي انطلق قبل اعوام في مدينة سيت الفرنسية، بل هو مهرجان هذه المدينة الاسبانية القروسطية التي لا يزال يفوح من أزقتها وعماراتها عطر الأندلس. وعطفاً على الصفة المتوسطية التي تتوشح المدينة بها تزيد هويتها الأندلسية مزيداً من الأسرار عليها وتضفرها بهالة تاريخية عريقة. هذه السمات كلها تصنع فرادة هذه «الحاضرة» الرابضة في شبه الجزيرة الايبرية والتي يلفها نهر التاج وتحيطها الوديان وتنسرح فيها الحدائق وتنهض معالم التاريخ في تجلياته المسيحية والإسلامية واليهودية. هذه مدينة وجدت لكي تكون حقاً مدينة شعرية ولو لبضعة أيام هي أيام المهرجان الذي جمع هذه السنة في دورته الخامسة أربعين شاعراً من خمسة عشر بلداً وتسع لغات.

يكفي أن تستعيد الذاكرة الشاعر القديس يوحنا الصليب الذي سجن ليلة الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1577 في أحد أديرة الكرمليين في توليدو طوال ثمانية أشهر. وفي زنزانته أشرق عليه «الليل المظلم» وعاش ما سماه «ليل الإيمان» و «الضوء الصوفي»، وألّف ديوانه الصوفي البديع «النشيد الروحي»، وهو حفظ المقاطع الواحد والثلاثين منه غيباً أو عن ظهر قلب كما يقال، لأنه منع من الأوراق والأقلام. وكان هذا الشاعر الذي طوبته الكنيسة قديساً لاحقاً وواحداً من علمائها، قد سجن نتيجة حركته الإصلاحية التي أعلنها ولم ترض السطات عنها حينذاك وحاربتها. ولا يمكن تناسي الشاعر والكاتب المسرحي الاسباني الكبير لوبي دي فيغا (1562-1635) الذي عاش ردحاً في توليدو وكتب فيها أجمل أعماله ومنها «القصائد الدينية» و «القصائد الدنيوية».

أما الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا ريلكه فمن المعروف أنه دأب على زيارة كاتدرائية توليدو وقضاء أيام في أرجائها الرحبة متأملاًَ جماليتاتها المقدسة ومستوحياً إياها في شعره. وهذه الكاتدرائية التي تعد واحدة من أبرز الكاتدرائيات في الغرب كان بدأ تشييدها عام 1227 على طرقة المدرسة الغوطية وراح بناؤها الهندسي يتوسع ويتقدم إلى أن اكتملت. شعراء كثر قصدوا هذه المدينة مثلما قصدوا مدن الأندلس، ليكملوا مشهدية الأندلس الذي كتبوا فيه أجمل القصائد، وفي مقدمهم في العصر الحديث لويس أراغون ومحمود درويش وأدونيس وأمجد ناصر وسواهم...

يحار زائر توليدو عندما يبلغ هذه المدينة المرتفعة والمنخفضة داخلياً والتي تبدو شوارعها اشبه بـ «المتاهة» التاريخية والهندسية. تنخفض الطرق أو الدروب ثم ترتفع ثم تلتف من حول الأبنية القديمة التي ما برحت تحافظ على طابعها العريق. طرق ضيقة لا تكاد تتسع للسيارات التي تسلكها بحذر خوف أن تصطدم بجدران البيوت التي تمتد على جانبيها أو أن تصدم المشاة وما أكثرهم هنا، على رغم العبء الذي يفرضه المشي من أسفل إلى أعلى أو العكس. لكنها تظل مدينة في متناول زائرها مهما مشى وتاه بين الأزقة وعلى ضفاف نهر التاج البديع أو عبر القناطر المعقودة بزخرفاتها المتداخلة فنياً وهندسياً، وأجملها القنطرة التي يمر بها الجسر والتي عرف باسمها «جسر القنطرة»... علاوة على البوابات القديمة أيضاً مثل بوابة الشمس وبوابة الاسود. وكذلك الكازار أو القصر والحمام العربي... هذه المدينة التي سميت في العصر الروماني «المدينة المحصنة» وفي القرون الوسطى «مدينة التسامح» كانت واحدة من الحواضر التي فتحها طارق بن زياد عام 712 ميلادياً، ومكثت تحت الحكم الأندلسي أكثر من ثلاثة قرون إلى أن استعادتها الكنيسة عام 1085.وحينذاك برزت جماعة من الموريسكيين وهم من المسلمين الذين أصروا على البقاء في شبه الجزيرة الايبرية بعد سقوط الأندلس، فسميت توليدو أيضاً «مدينة الموريسك».

وعلى رغم سعي الهندسة المسيحية إلى إعادة إحياء الطابع الأول للمدينة قبل الفتوحات فهي لم تلغ هويتها الأندلسية الإسلامية واليهودية، فظلت الآثار تدل على فرادة توليدو أو طليطلة التي تلتقي فيها الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وكذلك الديانات السابقة، الاغريقية والرومانية وآثارها وفنونها. ووصفت توليدو سابقاً بـ «عاصمة» مملكة الغوط الموحدة في إسبانيا حتى عام 711.

توليدو أو طليطلة هي أيضاً عاصمة قشتالة لا مانشا أو كاستيلا دو لا منشا البلاد التي انطلق منها بطلا الكاتب العظيم ميغال ثرفانتيس (1547-1616) الشهيران دون كيخوتي ومرافقه سانشو وفيها جالا وصالا وغامرا وخاضا معارك طواحين الهواء. وهما يملآن بالرسوم والمنحوتات الصغيرة والكبيرة واجهات المحال التي تغص بها الساحات والازقة.

في هذه المدينة التي تختلط فيها الوقائع والأوهام، الآثار والأشباح، الحكايات والأبطال أحيا مهرجان «أصوات حية» الفرنسي لياليه الشعرية الإسبانية فاحتل الشعراء الإسبان والمتوسطيون زوايا المدينة وساحاتها وبعض قلاعها الأثرية، والتقوا جمهورهم وناسهم اليوميين الذين هم أهل المدينة وبعض من سائحين استوقفتهم القراءات خلال تجوالهم. أربعون شاعرة وشاعراً معظمهم من إسبانيا والآخرون من بلدان مثل البرتغال وألبانيا والأرجنتين وكوستاريكا وفرنسا...

ومن العالم العربي حضرت تونس والجزائر ومصر والعراق ولبنان وفلسطين وسوريا. معظم الشعراء العرب المدعوين يكتبون بالعربية وبعضهم فرنكوفونيون. وليس من المبالغة القول إن الشعر العربي كان له حضوره المميز وقد ارتفعت اصوات الشعراء العرب حاملة الى المهرجان وجمهوره ملامح من المأساة العربية الراهنة. وبدا واضحا تفاعل الجمهور مع القصائد الطالعة من التراجيديا السورية مع الشاعرة هالة محمد ومن المتاهة العراقية مع الشاعر كاظم جهاد ومن المأساة الفلسطينية مع الشاعر بشير شلش... ولم تغب حال الاضطراب التي يشهدها العالم العربي في لبنان مع الشاعر عبده وازن وفي مصر مع الشاعر محمد ابو زيد وتونس مع الشاعر الفرنكوفوني أيمن حسن والجزائر مع الشاعر الفرنكوفوني حميد طيبوشي...

قرأ هؤلاء الشعراء من جديدهم المستوحى من الأجواء الراهنة، ومنحت الشاعرة هالة محمد اهتماماً فشاركت في قراءات كثيرة جماعية وفردية. أما الندوة التي حملت عنواناً مميزاً هو «ماذا يعني أن تكون شاعراً عربياً اليوم؟»، فشارك فيها حواراً وقراءة الشعراء بشير شلش ومحمد أبو زيد وعبده وازن وأدارها وقدمها الروائي والأكاديمي العراقي المقيم في مدريد محسن الرملي، وهو كان بحق محرك المهرجان إسبانيا وعربياً. وتحدث الشعراء الثلاثة عن تجاربهم ومعاناتهم في مرحلة هي من أصعب المراحل وأشدها تعقداً، وكيف يواجهون مثلهم مثل سائر المثقفين العرب رقابات شتى سياسية ودينية واجتماعية. وتحدثوا عن واقع الشعر العربي الذي يكاد يفقد قراءه ويعيش في حال من العزلة التي تحاصر الشعراء. وتكلم الشاعر شلش عن الحالة الفلسطينية تحت الحصار الإسرائيلي والسلطوي وعن إصرار الشعراء الفلسطينيين على المواجهة انتصاراً للحياة الكريمة.

ولقيت هذه الندوة نجاحاً وعلقت عليها الصحف المحلية. وحضر أيضاً الشاعر المصري أحمد يماني المقيم في مدريد.

وأصدر المهرجان كتاباً للمناسبة هو عبارة عن مختارات أو أنتولوجيا شعرية تضم قصيدة لكل شاعر من الشعراء المشاركين باللغة الأم وبالترجمة الإسبانية.

الحياة