عن بيت أبو غيدا في حيفا

2017-10-05 14:51:16

مع أنها قالت إنه مثل سائر البيوت الفلسطينية مملوء، بل مزدحم، بعفش البيت وأغراضه وأثاثه، أصرّت رائدة طه على أن تعدّد لنا كلّ شيء فيه. بدأت بذلك مع العنوان الذي وُضع للمسرحية، وهو عنوان البيت «شارع عباس 36» ثم جعلت تتنقّل بنا، وهي في وسط محيط المسرح الفارغ، بين الغرف: الصالون والسفرة وغرفة النوم والمطبخ، ثم الشرفة المطلّة على البحر. هنا على ذاك الحائط، حيث يشير إصبعها، صورة مزخرفة بألوان فلسطينية، وعلى الطاولة مفرش مطرّز جميل، لكن جرت تغطيته بآخر من النايلون، لئلا يتّسخ أو يبلى، وفي غرفة النوم هنا الفرش المستوفة بعضها فوق بعض . كل شيء جرى تعيين مكانه، بما في ذلك ما كانت تحتويه «الجوارير» والخزائن. وفي المطبخ شاهدنا ما يماثل عرضا حيا للحياة التي تجري بين رائدة وأمّها. 
ليس فقط لأن الكلام عن البيوت المتذكَّرة يجنح نحو الاستفاضة، بل أيضا لأن هذا البيت هو ما ستدور عليه حكاية رائدة. وهي حكاية مديدة في الزمن، تبدأ منذ ما قبل 1948، السنة التي كانت سفن تخرج من ميناء حيفا محمّلة بأهلها، وسفن أخرى تدخل إليه جالبة بشرا آخرين ليحلّوا محلّهم. ومن غريب الصدف أو من عاديّها، أن تحلّ في البيت عائلة فلسطينية استأجرت البيت أو اشترته من محتلّه، تبعا للقانون هذه المرّة، الإسرائيلي. عائلة علي رافع انتقلت من صفد إلى هذا البيت في حيفا. ورغم إقامتها الطويلة فيه، ظلّت الأم سارة تتمنى، بل وتبتهل لعودة مالكيه الأول (عائلة أحمد أبو غيدا) للإقامة فيه، عاكسة بذلك، بل مصحّحة، ما ذهبت إليه سنوات الاحتلال واغتصاب البيوت. كانت رائدة طه تسمّي كل شيء من محتويات البيت وتعيّن مكانه. ذلك من أجل أن تنقله لجمهورها ماثلا أمامهم كامل الحضور. وهي جعلت تتحرّك في البيت، متنقّلة من غرفة إلى أخرى، مقسّمة أو مقطّعة مساحة الفراغ، حيث لا شيء على الخشبة ليُشغل النظر، أو يشتّت أركان البيت الذي يُعاد استحضاره بالكلام وحده. نحن، على مقاعدنا في صالة المسرح، بدونا كما لو أننا إزاء بناء ماثل أمامنا، مطلّة شرفته على البحر، ومنحدرة طريقه، من الجهة الأخرى، نزولا إلى الطريق العام، حيث تتوقّف السيارات. في الكثير من الأعمال المسرحية التي تؤدّى بممثّل واحد، يظل ما يوصف أو يُروى ناقصَ التحقّق. هنا، في «شارع عباس 36»، كنا إزاء بناء جرى تركيزه بالتخيّل حتى صار كأنه صخب مرئيّ. 
ذلك ينطبق أيضا على ديناميكية ما يجري على الخشبة. فإذ كانت الممثّلة تتحرّك وحدها هناك في تلك المساحة، كانت تُستحضر في أدائها شخصيات أخرى: نضال صديقتها، حيث كان يكفي أن تعقد رائدة شعرها، بحركة سريعة، حتى تصير رفيقتَها. أما الأمّ فكانت تؤدّى بإرجاع الرأس إلى الخلف، مع رفعه ليصير أقرب إلى استلهام الكلام من سقف البيت أو من السماء التي فوقه، وحتى يغيّب عنه مَن يسمعه. ثم المحقّقة الإسرائيلية التي رفعت الممثلة صوتها زاعقا حتى بدت رائدة طه في دور إضافي يكاد يخرج عن سياق المسرحية وبنائيّتها. ثم، ولنضف إلى هؤلاء، الغائبين الحاضرين، وريث عائلة أبو غيدا مالكة البيت الأصلية، فؤاد أبو غيدا الذي قصدته إلى لندن رائدة، أو صديقتها نضال، أو كلاهما معا، ليأتي ويرى بيته الأول في فلسطين. وإذ وصلت السيارة التي تقلّه إلى أسفل الطريق النازلة، رأى أن هناك احتفالا بقدومه ارتفعت له الزغاريد. وحين وصل إلى البيت، بيته، على رغم ما تعاقب على البيت من تواريخ، كان في استقباله أصدقاؤه القدامى، منتظرين، مالئين المسرح، مختلطين مع آخرين جاؤوا للتهنئة هم أيضا. 
كل ذلك ولم يكن على المسرح إلا رائدة وحدها. لقد تمكنت من إبقاء الحركة مستمرّة على الرغم من الطابع البنائي، بل الروائي للعمل الذي قدّمته. أقصد أن دور الممثّل الواحد ذاك لم ينضمّ إلى ما سبق أن شاهدناه من ميل إلى الاستطراد والذهاب إلى ما يخطر على البال من حكايات وأفكار في الأعمال المسرحية المماثلة. «شارع عباس..» عمل سياقي من أوّله إلى آخره (لم يخترقه إلا مشهد التحقيق في مطار اللد، الذي وإن كان يمكن تسويغ إدخاله في سياق المسرحية، إلا أنه يظل جانحا مستقلا عنها). وقد فوجئ فؤاد أبو غيدا، الذي بات في سبعينياته، كيف أن البحر الذي تطلّ عليه الشرفة ما زال كما هو، وفي مكانه ذاته. ولم يبالغ في إظهار انفعاله. كان مكتفيا بما يسمع وما يرى، واقفا، مرتديا بدلته على جسمه المائل، كما نتخيّله، إلى سمنة قليلة، ومتطلعا من خلال نظارته، مندهشا كغريب بكل ما يجري حوله. وسط ذلك الاحتفال الذي يصنعه مَن لا يزالون مقيمين في حيفا، أحسن فؤاد أبو غيدا في أن يظل على اندهاشه وصمته، تاركا لنا، نحن من تُروى لنا حكايتُه، أن نتساءل أيّ مشاعر تتحرّك في داخله العميق.
*»36 شارع عباس- حيفا» أخرجها جنيد سريّ الدين وكتبت نصها وأدتها منفردة رائدة طه، وقد عُرضت على خشبة مسرح بيروت.