تعميم تجربة المهرجانات العلمية في المدارس

2017-10-23 10:16:54

ليس من شك أن العملية التعليمية أساس الكثير من عملية البناء المطلوبة خاصة في المرحلة القادمة بعد سنوات من الإنقسام والتشرذم، كان جهاز التعليم خلالها ساحة للاشتباك والخلاف السياسي والإداري. ومثل كل ساحات الاختلاف فإن الضحايا كثر. ولكن حين تكون الضحية هي المستقبل فإن الأمر يحتاج للكثير من التأمل والإجراءات التي تمنع أي انهيارات وتراجع في المناعة. وربما أن الخطط التفصيلية تستحق المزيد من الوقت من أجل تحسين وتطوير الوضع القائم والبحث عن واقع أفضل، الواقع الذي سيسعد أبناؤنا بالعيش فيه. ولأن البحث عن الواقع الأفضل يتطلب جهداً حقيقياً وليس مجرد ردة فعل على واقع المصالحة الجديد، الإيجابي بكل الأحوال، فإن الأمر يتطلب حلولاً خلاقة يتم في سياقها تقديم مقترحات ومقاربات جديدة للعملية التعليمية التي كانت ضحية هذا الإنقسام. 
حظيت بزيارة لمهرجان العلوم الي ينظمه مركز القطان للطفل في غزة والذي يقدم مقاربة جديدة ومتقدمة لتعليم العلوم لطلاب المدارس من خلال وضعهم مباشرة في صلب العلوم، وليس عبر تلقينهم وتحفيظهم المواد العلمية. أذكر كيف كنا في الماضي ونحن فتيان نكره حصص العلوم – على الاقل أنا كنت افعل ذلك- ونعتقد أن عقلنا غير علمي ولا يتقبل العلوم. كنا نكره القواعد التي علينا حفظها عن ظهر قلب، والمعادلات الجافة التي كنا نرددها، والتفسيرات الصماء التي كان علينا أن نفهمها كأنها فرض سماوي. وفي الحقيقة في مرات كثيرة كنا نفهم، وفي مرات أكثر كنت أشعر أنني مثل معادلة الرياضيات أقوم بعملية ميكانيكية في تقبل الشروحات والمعادلات والحسابات. وكانت حصص المختبرات القليلة في المرحلة الإعدادية تخفف عنا الكثير من كل هذا العناء وترطب جو الحصص الجاف من خلال إشراكنا في رؤية ما يجري عملياً حين نتحدث عن الكيمياء أو نرى الأجسام في تجربة فيزيائية حية أو نراقب عن كثب نمو الأشجار أو رؤية مجمسات للإنسان والحيوان. كان ثمة متعة تخفف من حدة الصرامة التي كانت تتميز بها حصص المواد العلمية. وكان لمثل تلك اللحظات دور في جعلها ممكنة رغم كل شيء حتى تمكنا من الانتهاء من تلك المرحلة التعليمية.
أقول ذلك لأعود لمهرجان العلوم الذي نظمه مركز القطان نهاية الأسبوع والذي شمل مجموعة من الزوايا التي هدفت إلى تبسيط العلوم لتلاميذ وتلميذات المدارس وجعلها تبدو جزءاً من وعيهم العام وممارستهم اليومية. شملت هذه الزوايا في البداية زاوية عن فن العمارة حيث إلى جانب تعرف الزائر على أساطين الهندسة المعمارية من سنان إلى لوكوبوزيه وزها حديد، فإنه يدخل في تمارين عملية لتعلم منطق البناء المعماري، ويشارك في تركيب أشكال خشبية على شاكلة مباني، كما يدخل تجربة عملية لفهم الحيز والمنظور. وفي زاوية أخرى يقف الزائر أمام تجارب حية لفهم عمل الروبوتات ومنطق التحكم بها. ليس من خلال مشاهد فيلم أو قراءة بروشور حول الأمر، ولا عبر شرح ميكانيكي عن ذلك، بل من خلال مشاهدة كيف تعمل الروبورتات وكيف يتم صناعة مباني ذكية يتم خلالها التحكم بكل شيء. صحيح أن الزائر يقف أمام بعض الشروحات لكنه يمكن له بيديه أن يمارس كل ذلك ويجربه. وفي زاوية ثالثة هناك محاولات لتقديم منطق الفيزياء للزائرين من خلال شروحات مختلفة وتجارب حية يكون الكثير منها على المستوى النظري ضمن منهاج المدارس حتى يكون معيناً للتلاميذ والتلميذات في فهم فروضهم المدرسية. وزاوية خضراء حول الزراعة الحديثة وانتاج الطاقة الحديثة وغير ذلك. كما أن هناك جوانب طبية مختلفة وأخرى عن بعض النظريات الحديثة في الكون يتم شرحها بطريقة عملية وحية للزائرين. كل هذا يقدم وجبة دسمة لهم من أجل جعل العلوم تبدو شيقة، وتخرج عن كونها مجرد مادة علمية جافة يتطلب فهمها عملية ذهنية معقدة، ستكون صعبة على المتلقي لو لم يكن محباً للعلوم.
ببساطة كأن هناك من يقول لنا إن العلوم ليست صعبة، وأن فهم المواد العلمية لا يحتاج لأكثر من مقاربة صحيحة للعلوم لجعلها جزءاً من حياة الناس. والعلم الذي هو في صلب حياتنا، ولا يمكن تخيل التاريخ البشري دون هذا الكم المهول من التطورات والاكتشافات العلمية التي طوعت الطبيعية وسخرت للإنسان قوى وجلبت له منافع ما كانت لتتحقق له لولا العلم. وحين يصبح العلم ممكناً ومتوفراً وجزءاً من فهم الإنسان للحياة فإنه يكون أكثر نفعاً.
وبالعودة إلى العملية التعليمية خاصة في قطاع غزة فإن البحث عن الحلول الخلاقة التي تخفف من وطأة المنهاج وتزيد الدافع لدى المتعلمين يجب ان يكون في سلم أولوياتنا في المرحلة الجديدة. وهذا يتطلب تعميم التجارب الناجحة مثل مهرجانات العلوم في المناطق التعليمية وربما تنظيم مثل هذه المهرجانات سنوياً في كل منطقة تعليمية أو في كل مدرسة. تخيلوا كيف يصبح حالة العلم لو أن مدارسنا كانت تتسابق في تنظيم مهرجانات العلوم ويكون خلال ذلك تنافس أكبر على تقديم اختراعات جديدة على هذا  المستوى، وإذا ما تم إشراك الجامعات ضمن هذه الرؤية الواسعة فإننا سنكون أمام فضاء تعليمي جديد.
إن تعميم التجارب الناجحة يساهم في خلق المستقبل الأفضل ويخرجنا من حالة الركود. فلا يكفي أن يكون لدينا منهاج قوي، ولا يكون أن يكون لدينا منهاج حديث يربط الطالب بآخر ما توصلت له العلوم، على الطالب أن يعيش العلم وأن يصبح جزءاً من وعيه عن العالم حوله، أن يستخدمه في تطويع حياته. ما لم يتحقق ذلك فنحن أمام نصوص جميلة لا تعني للطالب شيئاً بعد أن ينتقل خارج أسوار المدرسة. الملاحظة الأخيرة ثمة الكثير الذي يجب أن يقال حول أزمات العملية التعليمية ولكن يشكل  العلم محور كل شيء لأن التعليم مشتق منه.