أيها الناس: ابني مجد مات…!!

2017-11-09 11:36:21

يصقل السجن مرآته كل يوم ليرى ابنه الذي تركه يافعا ناضرا مندفعا، يرسم الطريق برموشه اليه، يسمع صوته، يحضنه، يقبّله، يأخذه معه حيث يشاء ، يفتح حقيبته المدرسية، يقرأ ما يكتبه ويرسمه ويخربشه من أحلام قصوى، وما تنبض به عروق يديه.

يد السجن قالت له ان يخبيء صورته تحت نبضات قلبه، هي أبهى الصور، ويد السجن علمته ان يسقي النبتة الخضراء بماء عينيه، حديقة حريته موثقة بأرض النبواءت ، سيراه، يسمع اسراره، يرى اقماره وتدفق أنهاره الصغيرة في شرايين ساعديه.

بعد مماطلة طويلة، سمحت إدارة مصلحة سجون الاحتلال للاسير رجب الطحان ابن مدينة القدس المحكوم بالسجن المؤبد من زيارة نجله مجد في مستشفى هداسا عين كارم والذي يعاني من سرطان الدم وفي وضع صحي صعب جدا، فتم احضار رجب من سجن نفحة الى المستشفى مكبل اليدين والقدمين الساعة الرابعة والاربعين دقيقة من فجر يوم الاثنين 30/10/2017 ، حيث وجد المستشفى محاطا بالحراسة والوحدات الخاصة، مستهجنا من هذا الحشدّ المسلح لمجرد لقاء بين اب اسير وابنه المريض الذي يصارع الموت.

يقول الاسير رجب: في طريقي الى مستشفى هداسا خططت كيف اعيد لخلايا ابني انفاسها، المس وجهه، اجسّ نبضاته وتضاريسه، أمشط شعره، اخلع ثياب السجن والقي بالقيد بعيدا، آخذه معي الى شوارع وحارات القدس القديمة، اشتري له الكعك البلدي من باب العامود، نصلي معا بين آيتين وبابين ومغربين، فهذه ارضنا ليست نعشنا، الحياة فوقنا سماء، ، والارض تحتنا سماء، والشمس لا تغيب عن القدس لأجل الوداع، تنتظرنا دائما في الصبح ، تلقي علينا تعليمات الضوء وتعطينا مفاتيح البوابات.

في الطريق الطويلة الى ولدي، تفتح الذاكرة امامي كل تفاصيل ايامي الغابرة، طفلي الجميل الذي جاء وغبت عنه كثيرا ، كان عمره اشهر معدودة عندما اعتقلت عام 1998، ووجدته فتيا عندما افرج عني في صفقة وفاء الاحرار عام 2011 ، ولم أمكث طويلا معه حيث اعيد اعتقالي عام 2014 واعادت حكومة الاحتلال حكمي السابق وهو المؤبد، وذلك ضمن حملة اسرائيلية بغيضة شملت عددا كبيرا من المحررين الذين اعيد زجهم في السجن ظلما وتعسفا.

في الطريق اليه كانت صورته امامي، هذا الطفل الذي صار صبيا وقد غبت عنه كثيرا، كم هو بحاجة اليّ، لقد تدبر امره دوني، ابني الذي يحمل اسمي ودمي، وقد اصبحت حياته وحياتي كلها انتظار ، هل سيعرفني، ويتذكر كيف كنت أعدّ له السرير والحليب وفراشات النعاس الملونة عندما كان طفلا؟ هل سيتذكر حكايات النوم؟ وانا اقص عليه كيف نستطيع ان نوحد الحياة وما سوف يأتي بما تكنز الحرية فينا بعد ان يستيقظ الفجر وتنهض الذاكرة، هل سيدرك مجد اني اقضي عمري حارسا على حياته القادمة؟

في الطريق اليه وأنا داخل البوسطة الحديدية المغلقة ، كنت أعدّ النجوم التي لا أراها، اعدّ الابواب الكثيرة التي لا زال يدويّ صداها، اعدّ آلاف الاسرى والمعتقلين احياءً وشهداءً مروا في السجون والمعسكرات ذهبوا واختفوا في لظاها، اعدّ الاسماء التي صارت ارقاما ، جف بريقها ، تيتمت ، تكسرت اشواقها وتعثرت خطاها.

تساءلت في رحلة زيارتي لابني المريض: هل سأعرفه ويعرفني؟ انا قادم أجرّ السماء البعيدة معي، ضجيج سيارة البوسطة ثقيل ثقيل ، سأصل بعد قليل ، كلماتي تتقاطع مع دموعي، ارتجف ، كلماتي تتوارى، لغتي خطواتي الآتيات الى ابني المريض، كل كلمة بلاد، كل كلمة عشبة وأغنية، اتخيله يلقي برأسه فوق صدري، اصغي اليه ، لا تقولوا انه سيموت ، ها انا اصغي اليه.

دخلت الى غرفته في مستشفى هداسا ، هذا ليس ابني، اعتقدت ان إدارة سجون الاحتلال قد خدعتني وانها احضرتني الى مريض آخر ليس ابني، هذه ليست ملامحه، فسألته ما اسمك؟ ما اسم ابيك؟ ما اسم اخوتك واعمامك وجدك؟ كان مجد يجيب على كل الاسئلة؟ دموعه ملأت وجهه الشاحب، اخذته في حضني ، هذا مجد، لم تمنعني الاصفاد في يدي وقدمي من عناقه طويلا.

مكثت نصف ساعة مع ابني مجد، رأسي مليء به الآن، سقيته الماء حتى ارتوى، احضرت سلالم روحي ليصعد الى الحياة، قلت له : يا مجد ها انا اتيت ، سنصعد الجدران العالية، سنطرد رائحة الموت، نزعت عنه البرابيش والاجهزة الطبية، فللحياة الف باب وباب، وللسجن الف باب وباب، ها هو مجد ، حي في حضني ، فوق التراب وليس تحت التراب.

أيها الناس : ابني مجد مات يوم الثلاثاء 7/11/2017 الساعة الثالثة عصراً، عيناي ليل ووجهي على الاسلاك، قضيت عمري لألقاه، خرجت من جداري لأراه، دمه في عروقي ، يفتح اجفانه، يتغلغل تحت ثيابي وانفاسي ، حياتي لاسواه، ابني مجد مات، هو ما كتب لي وما كتبت يداي، هو ما قرأ، وما بدأت وما أبدأ، هل أعدّ له سريرا ام أعد له مدفنا؟ ابني مجد مات.

ايها الناس : ابني مجد مات، يرحل بصره الآن، هو جاهز، يضع موته على ايام مؤبداتي ، ينفخ في صدري لهيب الشوق، يفتح لي بابا، يسند ظهري، لن اسند ظهري بعد اليوم على جدار.