جريمتان بحق ضحية واحدة .. الاحتلال يواصل احتجاز جثمان الشهيد إلياس ياسين بعد إعدامه

2018-12-26 07:29:19

راية- حازم شملاوي:

بينما كان الأستاذ صالح ياسين "أبو وجدي" 56 عاماً من بلدة بديا بمحافظة سلفيت؛ مرابطاً على باب مدرسة الساوية اللبن لكسر قرار الاحتلال القاضي بإغلاق المدرسة في 15 تشرين الأول 2018، وبعد أن فرغ من مواجهة حامية الوطيس مع جنود الاحتلال الذين أمطروا المدرسة بقنابل الغاز السام والطلبة بداخلها وحاولوا منع الدوام المدرسي؛ تلقى أبو وجدي اتصالاً يفيد بمحاولة أخرى للاحتلال لاقتحام مدرسة بنات عينابوس الثانوية، وعلى الفور تحرك برفقة زملائه تجاه المدرسة وحسم الأمر بعقلانية بما لا يمنح أي ذريعة للاحتلال للاعتداء على المدرسة.

وفي الوقت الذي كان أبو وجدي يحاور فيه المديرة ويوجه لها النصائح لحماية المدرسة من اعتداءات الاحتلال بصفته نائباً فنياً لمدير تربية جنوب نابلس؛ فإذا بالهاتف يدق جرسه؛ المتصل هو وهبي ابنه، لم يجب على الهاتف، وبعد أن انهى حديثه مع مديرة المدرسة؛ عاود الاتصال بــ وهبي الذي ألقى الخبر الثقيل على الفور "إلياس استشهد على مفرق قرية حارس".

الأب كذّب الخبر وتجاهله، وعلى الفور اتصل بابنه إلياس؛ لكنه لا يجيب على الهاتف، فبدأ القلب يخفق بشدة، وبلغ القلب الحنجرة، اتصل بزوجته للسؤال عن إلياس؛ فأخبرته أنه خرج من البيت وأنها طلبت منه أن يحضر الخبز للمنزل عند عودته، وكان في وضع نفسي مستقر وأنيقاً في لباسه.

انتقل أبو وجدي على الفور متحركاً برفقة أحد زملائه إلى بيته في بلدة بديا، وما أن وصل مفرق قرية حارس؛ حتى وجد أزمة سير خانقة وتجمعاً كبيراً لجنود الاحتلال وشرطته الذين منعوا الجميع من الاقتراب إلى موقع الحدث؛ حينها بدأت الأمور تتأكد لديه شيئاً فشيئاً أن ابنه إلياس قد استشهد فعلاً؛ وهو ما تأكد عند وصوله المنزل؛ حيث يتجمع أهالي القرية هناك.

يقول أبو وجدي : "منعوني من الاقتراب، وإلقاء نظرة الوداع الأخير على إلياس، وأن أضمه إلى صدري، وأشتم منه رائحة الجنة، وأن أُقبله، وأمسح دموعه التي جفت في مقلتيه، وأن أحدّق النظر في عينيه الشاخصتين كالقمر على مصطبة الظلام".

83 يوماً وجثمان الشهيد رهن الاعتقال

وبالإضافة لجريمة إعدام إلياس (21 عاماً)  والذي صادف تاريخ ميلاده بعد أيام من استشهاده؛ يقول والده إن استمرار احتجاز الجثمان لمدة 83 يوماً هي جريمة أخرى بحق الشهيد، إذ يواصل الاحتلال "التفنن" في وضع العائلة على أعصابها فيما يتعلق بموعد التسليم، مؤكداً أن الاحتلال أبلغه بتسليم الجثمان بعد أيام من ارتقاء الشهيد وهو ما لم يتم، مشيراً إلى المماطلة التي ينتهجها المحتل بخصوص تسليم جثمان الشهيد.

وبالرغم من الوعودات والالتماسات التي قُدمت لمحكمة "الظلم العليا" كما وصفها أبو وجدي، ما يزال الاحتلال يماطل حى اللحظة في تسليم الجثمان؛ بالرغم من مطالبات عائلة ياسين المستمرة والاعتصامات التي نظمتها بمشاركة الفعاليات الوطنية؛ للمطالبة بالإفراج عن جثمان الشهيد.

ويطالب ياسين العالم الحر والمؤسسات الحقوقية والإنسانية للضغط على الاحتلال للإفراج عن جثمان ابنه، مؤكداً أن ابنه أُعدم بدم بارد، مضيفاً "حتى وإن سلمنا فرضاً بصحة ادعاء الاحتلال أن إلياس حاول الطعن؛ فإنه كان بإمكان الجنود إطلاق النار لإصابته وليس إعدامه بشكل مقصود مع سبق الإصرار، ومنع أي أحد من إسعافه"، لافتاً إلى أن قضية احتجاز جثمان إلياس؛ تفتح قضية جميع جثامين الشهداء الفلسطينيين المحتجزة لدى الاحتلال، في الوقت الذي يعد هذا الإجراء مخالفاً لكافة القوانين والأعراف وحقوق الإنسان.

أبو وجدي ألّف رواية تخليداً لابنه "الياسين"

"مزعج ذلك الضجيج الذي لم أكن أعلم أنه سينقلني إلى ضجيج آخر... تتزاحم فيه الأحداث والصيحات التي يعلوها صوت رصاص حاقد معلناً انطلاق الروح وغياب الجسد واغتيال المشاعر...".

هذا اقتباس من رواية ألّفها أبو وجدي تخليداً لابنه الشهيد؛ تناول فيها كافة التفاصيل في الساعات التي سبقت استشهاد إلياس الذي يسميه الياسين من باب التحبب له وأسوة بوجود سورة في القرآن باسم ياسين.

ويضيف أبو وجدي في روايته: "لم أكن أعلم أنني في تلك اللحظات الشاقة والمؤلمة ... كنت بين يدي الله عزّ وجلّ، وكان ولدي يواجه قدره المحتوم برصاصات الغدر والحقد الآثم  من عدو جبان .. لكنه لم يكن وحده؛ كان الله معه، وكنت أنا أقرأ له آيات بينات.. إنه إلياس .. الوطنيّ بنقاء.. الملتزم بدينه.. الأكثر هدوءً واتزاناً .. أحبه كل من عرفه .. صاحب الابتسامة والرقة والحنان.. ذو الأحلام البراقة والطموح اللامحدود".

وفي ذات اللحظات التي كان يردد فيها والد الشهيد "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"، كان إلياس على موعد مع الجنة في عراك وصفه والده بــ الملحمي، "وكانت رصاصات الغدر تستقر في صدره .. ويعلو المشهد صرخات ولدي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ..".

ويتابع أبو وجدي: "كنت أدافع عن الطفولة في موقع آخر هناك في الساوية .. ولكن يد الغدر امتدت لتغتال الطفولة والشباب في ساحة أخرى؛ لتكون الضحية ولدي .. أما الجلاد فذاته الجلاد .. ولتعلو قدماك يا ولدي فوق هاماتهم .. ولترتفع إلى ربك باسماً كما أنت".

والد الشهيد، الذي حبس دمعاته طوال مقابلتنا له؛ يقول: نحتسب إلياس عند الله شهيداً ولسنا وحدنا من قدمنا للوطن، فأبناء فلسطين يومياً على موعد مع التضحية لفلسطين وقضيتها، وسأحاكم الاحتلال على جريمته بحق ابني، "فقد اغتالوه برصاصات حقدهم الأسود، وصادروا فيه الطفولة والشباب، وأعدموا المستقبل في عينيه، وتناثرت ابتسامته رعباً في وجه الطغاة، وعلت قدماه فوق هاماتهم".

طموحات اغتالها الاحتلال

كل زوايا البيت تعج بتفاصيل ارتبطت بإلياس؛ حيث الكتابات التي خطها على واجهات المنزل بتوقيع "أبو عمار" كما كان يحب أن يُنادى، واسمه الذي حفره على شجرة الزيتون الحزينة على فِراقه في ساحة المنزل، وخطواته نحو الاستقرار التي بدأها بوضع قواعد لبيته، فقد كان متحمساً لإتمام البناء؛ فاغتال الاحتلال كل هذا المستقبل الطموح.

حتى صفحة إلياس في فيسبوك وإنستغرام والتي جسد فيها الشهيد أجمل الذكريات وأبلغ العبارات؛ حذفها الاحتلال بعد ساعات من استشهاده؛ ليحاول مسح ذكريات لن تغيب عن صفحة الزمان، بالرغم من أنه اغتال اللحظات الجميلة باغتيال صاحبها، فذات مرة كتب إلياس: "كما هي عادتنا.. وعلى جميع المنابر .. أن ننحني عزاً وفخاراً .. إجلالاً وإكراماً للذين ضحوا بدمائهم فرووا الأرض.. ".

إلياس كان محباً لسيرة عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي وصدام حسين وياسر عرفات، الأهل علّقوا على جدران المنزل صورة "أبو عمار" إلياس ياسين شهيداً إلى جانب صورة الراحل أبو عمار؛ وبجانبهما خارطة فلسطين التاريخية.

الشهيد كان قد أنهى امتحان الثانوية العامة عام 2013 والتحق بجامعة القدس المفتوحة في تخصص المالية، مكافح في عمله بقطاع البناء بالتزامن مع دراسته، تشده القضايا الوطنية، وأيضاً القضايا على الساحتين العربية والدولية.