مريد البرغوثي… حديث الغربة والذات والوفاء

2019-04-06 08:24:00

بعد أربعين عامًا، يأتي مريد البرغوثي حاملًا رام الله ودير غسانة على كتفيه إلى الكويت، حتى يلتقي بنا في أمسيةٍ حوارية وشعرية باستضافةٍ من مركز حروف الثقافي. جاء ليلقي علينا تعويذته السحرية من شعرٍ ونثر وبعض المقتطفات من حياته، مريد الذي عاش في الوقت لا المكان، كيف لا وهو ابن بطوطةِ الفلسطيني الذي عاش في أكثر من 45 دولةٍ بعد ما أبعدته مصر عن أسرته الصغيرة، واغتصبت أرضه فلسطين من قِبل الكيان الصهيوني المحتل، عاش متنقلًا مشتتًا تاركًا وراءه كل ما يحب ابتداءً من وطنه وزوجته ومرورًا بكتبه التي يوزعها على الجيران ونباتاته التي اعتاد أن يهتم بها كل صباح، انتهت الأمسية، ولم يغادرنا سحرها.

السياسة.. جزء لا يتجزأ من المعاناة

لم يكن باختيار مريد أن يكتب عن السياسة في الشعر والنثر، بل أنّه ولد وولد معه ظل السياسة التي تترقب حياته وتسيطر عليها وتطلق الأحكام بكل أريحية. منعت السياسة مريد البرغوثي من العيش مع عائلته في فلسطين ودار غسانة بالتحديد، ومنعته مرة أخرى من العيش مع أسرته الصغيرة في مصر، وأثّر ذلك عليه وعلى أسرته. كانت رضوى هي الأم وهي الأب لتميم على مدار سبع عشرة سنة من غياب والده عنه. كأن السلطة لم تكتف بترحيل مريد، فقررت ترحيل ابنه تميم. لا شك أن هذه التجربة من التجارب المؤلمة التي مرّ بها مريد وأثرت عليه وعلى عائلته. قال مريد: «السياسة تسقط علينا كالنيزك.. السياسة لا شيء.. لأنها كل شيء..»بسبب الوضع الفلسطيني والديكتاتورية العربية، كان لابد من تحمل هذه الأسرة الصغيرة الشتات. كونهم أسرة مثقفة وواعية عانوا من الترحيل والضغط، بل والسجن، لأن رأي كل فردٍ منهم يثير السلطة، لذلك فإن الصبر هو الحل على مواجهة هذه الحياة.

الهوية الكونية وأثرها على مريد

«لماذا يظن كل شخص في هذا العالم أن وضعه بالذات هو وضعٌ مختلف؟ هل يريد ابن آدم أن يتميز عن سواه من بني آدم حتى في الخسران؟»
عندما نتحدث عن الهوية، فنحن نتحدث عن بصمة الإنسان ومرآته التي تعكس أفكاره وآراءه وتطلعاته. يقول جون لوك: «أساس الهوية الشخصية هو الوعي والذاكرة وتلازم الفكر والشعور» حيث ترتبط هوية الشخص بشخصيته بالضرورة فلا يمكن الفصل أو تجزئة المشاعر والأفكار. من خلال غربته الطويلة عن وطنه وعن أهله، شكلت هذهِ التجربة وعي مريد البرغوثي وذاكرته، الذاكرة التي مهما تجولت بين الدول تستقر في جسد مريد. إن هذهِ التجربة صقلت هوية مريد البرغوثي، حيث انتقل من الأنا وهي الوعي الفردي الاهتمامات والأفكار والانحيازات، التي تصب في مصالحه الشخصية إلى العالم، وهو عالم التصورات والعلاقات التي يبنيها ويربطها الفرد مع ذاته والآخرين.

لم يكن باختيار مريد أن يكتب عن السياسة في الشعر والنثر، بل أنّه ولد وولد معه ظل السياسة التي تترقب حياته وتسيطر عليها وتطلق الأحكام بكل أريحية.

 صوّر مريد البرغوثي القضية الفلسطينية،  على أنها وجعٌ وجرحٌ للجميع، وكونه فلسطيني، فلم ينحَز لقضيته وحسب، بل انحاز للإنسانية ككل، فالإنسان الذي يختلف عنه قد يشبهه بالألم والمعاناة. من شأن الهوية الكونية أن تجعل من الإنسان إنسانًا يشتمل على كل الثقافات في الكون وتجمعها تحت سقف التعايش، وهذا ما اكتسبه مريد من خلال تنقلّه بين البلدان والقارات، والتعرف على ثقافات وعادات جديدة عليه وهو ابن التين والزيتون.

بعضُ الأوطان هكذا..
الدخول إليه صعب، والخروج منه صعب
والبقاء فيهِ صعب..
وليس لك وطنٌ سواه

في الأمسية قال البرغوثي عبارة تلامس القلب وهي «أنا بدون كوني» فربط قضية البدون في الكويت بشتاته وغربته عن أرضه وأسرته، وهنا تظهر وتتجلى إنسانيته بشكلٍ عفوي غير مصطنع. هو لم يشعر بالأمان والاستقرار كالمئات من أبناء جلده وعشرات الآلاف من البشر الذين هاجروا وتشردوا ونزحوا، رغمًا عنهم وبسبب السياسة. أن يقول مريد هذه العبارة، يعني أنه يعلم بمعاناة غيره ويشعر به، ولم تقتصر المعاناة بالقضية الفلسطينية أو قوة السلطة على من يحمل الجنسية الفلسطينية، بل على جميع البشر بشكلٍ عادل. في حديثه عن الترحال، يقر مريد بأن كثرة الرحلات والرحيل وسّع مفهومه حول الذات، والذات حسب الفلسفة الحديثة هي الوعي والحرية والإرادة لدى الإنسان، وهذا هو الطابع الغالب على كلامه، بحيث لا نرى أثرًا لأي أيديولوجية أو توجّه متعصب ما. أصبحت الكتابة هي الحل والمتنفس الذي يلجأ إليه مريد للتعبير عن نفسه وتجاوز الألم والقهر، حيث يستطيع التعبير عن رأيه بما يدور حول هذا العالم من خلال الكتابة شعرًا أو نثرًا وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي؛ يكتب حتى يعرّي الواقع ويعكس ما يشبهه ويلامس قلوب ومعاناة الكثير من الناس.

الوفاء.. فضيلة

الوفاء من الفضائل التي يتحلى بها بعض البشر عن غيرهم، وهو من أسمى وأعمق القيم الإنسانية. تحدث مريد في الأمسية عن محمود درويش وناجي العلي وغسان كنفاني، الأصدقاء الذين جمعتهم الجنسية وفرقتهم الجغرافيا. على الرغم من ابتعادهم جغرافيا، إلا أن الرسائل والاتصالات كانت تجمعهم ولا عزاء للغربة والجغرافيا والحياة اليومية العملية، بل إنه ذكر ناجي العلي ومدى عمق صداقتهم في روايته «رأيت رام الله». عبر عن خسارتهم جميعًا إنها اختصارات من عمره، ففراق الأحبة ليس بالأمر الهين. لعل مريد يعلم بأن لمحمود درويش مكانةٌ خاصة في قلوب جمهور الكويت، لذا تحدث عنه باستفاضة. تحدث عن محمود الصديق وخفة دمه لا محمود الشاعر الذي يتسم بالجدية. محمود الشاعر الرقيق والصديق الوفي الذي فجع مريد بوفاته ودُهش من جنازته التي حرص أن يحضرها في رام الله، لم يدهش من التكريم بل دهش بالنكران حين شيّعوا محمود درويش على أنه شخصية بارزة أو مسؤول ما، وليس محمود الشاعر الثوري الذي نعرف، واعتبرها مريد إهانة لا تليق بصديقه محمود درويش. في تعبيرٍ جميل قال: «بالنسبة لي تحديدًا أنا لا أفتقد شعره.. أنا أفتقد صحبته». في حضرة الشعر والحديث العذب.. من نحن؟ في هذه الأمسية كانت مشاعرنا طاغية على كل شيء، فحين يتحدث عن رضوى نشعر بالحب يسيل من عينيه وكأنها حيةٌ ترزق، وعندما يتكلم عن الصداقة نشعر بالعمق والولاء في زمنٍ أصبحت الصداقات فيه متخلخلة، ولمّا تكلم عن الوطن شعرنا بمرارة التنقّل والرحيل. ببساطةٍ شديدة، دخل مريد البرغوثي إلى قلوبنا بكل رقة وعذوبة بدون أي تصنّع أو تكبر، وطبع في ذاكرتنا أمسيةً لن تتكرر.

شكرًا مريد البرغوثي… 

٭ كاتبة من الكويت