ملادينوف والطموح السياسي على حساب الدم الفلسطيني

2019-06-08 17:54:33

كنت أعد مقالا حول المقارنة بين ثلاث مظاهرات وطرق التعامل معها، واحدة في الدوار الرابع في عمان، وثانية في ميدان المنارة في رام الله، والثالثة في ساحة السرايا في غزة. ولكن عندما استمعت صباح الثلاثاء لتقرير ألقاه ممثل الأمين العام لدى السلطة الفلسطينية ومنسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، أمام مجلس الأمن الدولي، رأيت من واجبي الخلقي والوطني والإنساني أن أشير إلى هذا التقرير الخطير الذي يكاد يبرر لإسرائيل جرائمها، ويلقي باللوم على الفلسطينيين. وخطورة التقرير ليس في ما قاله فقط، بل ما أشار إليه أو تجاهله عن عمد أو عرضه بشكل ملتو ومريب.

ولا يغرنك بعض الجمل المكررة والمعادة حول لاشرعية الاستيطان أو هدم البيوت. فهذا لا جديد فيه، وينقله حرفيا عن تقارير مكتب منسق الشؤون الإنسانية، أو دائرة الإحصاء الإسرائيلية، أو تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل بتسيلم.

وهذا التقرير الخطير أقارنه بتقرير اللجنة الرباعية، الذي صدر في الأول من يوليو 2016 حول أسباب تعثر تنفيذ الحل العادل والشامل والدائم القائم على حل الدولتين. وكاد ذاك التقرير يضع اللوم كاملا على الفلسطينيين. وقد نبهت لخطورة ذلك التقرير الذي أوكلت كتابته للمندوب الأمريكي في الرباعية، فرانك لوونستاين، مساعد مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة السابق في إسرائيل، وأحد قيادات الإيباك السابقين. ونشرت حينها مقالا بعنوان: «تقرير الرباعية الدولية ـ يتبنى الرواية الإسرائيلية في لوم الضحية». وطالبت فيه بالتنبه من ملادينوف ووقف التعامل معه أو مراقبة خطاباته وأعماله. وأجد نفسي مضطرا لأن أنبه مرة أخرى إلى خطورة هذه التقارير التي تؤسس لرواية جديدة تستغلها إسرائيل والولايات المتحدة لإعادة تأهيل إسرائيل، كدولة عادية لا تحتل أرضا ولا تنتهك القانون الدولي، ولا تمارس الفصل العنصري البشع.
مثالب التقرير الخطير

سأكتفي بمجموعة نقاط في رأيي هي الأخطر:
أولا: يتحدث التقرير عن موجة العنف الأخيرة، مبتدئا بذكر إطلاق الصواريخ من غزة إلى الداخل الإسرائيلي، ثم يذكر بعد الصواريخ مباشرة، أن الاحتجاجات التي بدأت يوم 30 مارس خلفت 135 قتيلا. فكل من يقرأ التقرير وينتبه إلى أن العنف بدأ بالحديث عن إطلاق الصواريخ يخرج بنتيجة أن إسرائيل إنما ترد على قصف الصواريخ. بهذه المهارة الخبيثة استطاع ملادينوف أن يضع إطارا للعنف يبدأ بالصواريخ من حماس والجهاد، التي تؤدي إلى سقوط ضحايا من الفلسطينيين.

ولم ينس ملادينوف أن يذكر أن جنديين إسرائيليين أصيبا، ولم يتحر الدقة ويقول إصابتهما خفيفة كي يترك للمستمع تقدير مستوى الإصابات.

ثانيا- يذكر التقرير أن 135 فلسطينيا قتلوا، ويلحقها فورا بجملة لئيمة تقول»وقد اعترفت حركتا حماس والجهاد بأن من بين الضحايا عناصر تابعة لهما». لكنه وعن عمد وسبق إصرار لم يذكر أن عدد المصابين زاد عن الثلاثة عشر ألف شخص، من بينهم ما لا يقل عن 30% أصيبوا بالذخيرة الحية، وأن عددا كبيرا منهم أصيب بعاهات دائمة. والأنكى من ذلك أنه لم يؤنسن هؤلا الضحايا، فلم يذكر أن من بين القتلى على الأقل 17 طفلا وصحافيين ونساء وشيوخا ومعاقين وطواقم صحية، حتى أنه لم يذكر استشهاد الممرضة رزان النجار التي أصبحت رمزا صارخا للجرائم المشينة والقتل بدم بارد.

ثالثا: وتمادى في تبريره للعنف الإسرائيلي فقال: «وتحت غطاء الاحتجاج، قامت حركتا حماس والجهاد والميليشيات الأخرى بأعمال عنف وأعمال استفزازية فقد اقترب المئات من السياج، وجربوا أن يخترقوه، وأحرقوا الإطارات وألقوا بالحجارة والقنابل الحارقة على القوات الإسرائيلية، وأطلقوا الطائرات الورقية المشتعلة وتركوا وراءهم مواد متفجرة». وتابع قائلا: «الفلسطينيون المحتجون (لاحظ الإدانة الجماعية) قاموا بسرقة وتكسير معدات ومنشآت لمعبر كرم أبي سالم من الجهة الغزية». ثم يكون واضحا أكثر في من يتحمل المسؤولية عندما يقول: «إن أعمال حماس والجهاد والمتطرفين الآخرين لا تعرض حياة الإسرائيليين والفلسطينيين للخطر فحسب، بل تعثر الجهود التي تعمل على ضمان مستقبل قابل للحياة للشعب في غزة». إذن تعرفون الآن من المتسبب في العنف ومعاناة غزة.

رابعا. لم ينس ملادينوف أن يذكر حماس والفصائل بوجود مواطنين إسرائيليين مفقودين في قطاع غزة، وضرورة تقديم كافة المعلومات عنهم، حسب متطلبات القانون الدولي. ولكنه يتناسى على الأقل 350 طفلا معتقلا، ويتناسى أيضا نصوص القانون الدولي في موضوع اعتقال الأطفال.

خامسا: لم ينس ملادينوف في بيانه خطاب محمود عباس في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، وعاد وذكر أن خطابه معاد للسامية، رغم معرفته التامة بأنها زلة لسان اعتذر عنها. وأضاف إليه مباشرة اقتباسات من أحد قادة حماس يحرض المتظاهرين على تمزيق السياج وتمزيق قلوب المحتلين. والإشارة واضحة إلى أن التحريض آت من كافة الأطراف، كما يدعي الإسرائيليون ونيكي هيلي. لكنه لم يقتبس ولا مقولة واحدة للإسرائيليين حول التحريض، أو حتى القوانين العنصرية التي تقر يوميا في الكنيست. وأقترح عليه مراجعة بعض التصريحات لوزير دفاعهم ليبرمان، وماذا قال عن قاتل رزان النجار أو عندما قال: «لا أحد بريء في مسيرات العودة» مبررا قتل أي شخص في تلك المسيرات.

سادسا- عندما ذكر الأنشطة الاستيطانية، أردف الفقرة فورا بأن نسبة الاستيطان في الربع الأول من هذا العام مقارنة بالأنشطة الاستيطانية في الفترة الزمنية نفسها من العام تعتبر أقل نسبة منذ ست سنوات، كما أنها لا تشمل القدس الشرقية المحتلة.
وأخيرا يكرر ملادينوف في كل تقاريره بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والدفاع عن مواطنيها، ولكنها يجب أن تمارس أقصى درجات ضبط النفس في استخدام الذخيرة الحية، وألا تفرط في استخدام القوة. ولا نعرف هل يملك الفلسطينيون الحق نفسه؟ أم أن لهم قوانين أخرى؟ ثم هل نسي السيد ملادينوف حقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال كما نصت عليها اتفاقية جنيف الرابعة؟

الطموح السياسي على حساب الشعب الفلسطيني

القاعدة الذهبية تقول إن كل من يسعى للوصول إلى منصب رفيع، أو موقع سياسي مهم عليه أن يصل إلى قلب الإدارة الأمريكية. والطريق إلى قلب المسؤولين الأمريكيين يمر حصريا بتل أبيب. فمن أراد أن يعزز مواقعه مع الإدارة الأمريكية عليه أن يحتضن الرواية الإسرائيلية، أو يحسن علاقاته معها، أو يخرج علاقاته السرية إلى العلن، كما يفعل بعض العرب. ومن لديه طموح سياسي رفيع في المنظومة الدولية، مثل منصب الأمين العام للأمم المتحدة فعليه أن يقدم ولاء الطاعة والإذعان للرواية الصهيونية، ويتبنى سرديتها حتى لو كان في ذلك مخالفة للقانون الدولي. أما المسؤولون الأمريكيون الذين يطمحون في مناصب عليا، فلا بد من السجود صاغرين أمام اللجنة الإمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة المعروفة باسم «أيباك». وحتى لا أطيل الرواية فهناك الآن شخصيتان تسعيان للحصول على بركات «تل أبيب وممثليها» لتحقيق طموحاتهما وهما: السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، التي عينها على الخارجية قريبا ـ ربما في الدورة المقبلة لترامب، إذا أعيد انتخابه ومن ثم الترشح للبيت الأبيض عام 2024. والشخص الثاني هو نيكولاي ملادينوف، وأعتقد جازما أن عينه على منصب الأمين العام بعد رحيل أنطونيو غوتيريش.

شغل ملادينوف في بلده بلغاريا (من مواليد 1972) منصب وزير الدفاع وهو في سن 27 سنة لمدة سنتين ثم وزيرا للخارجية لمدة ثلاث سنوات، ثم عين ممثلا خاصا للعراق لمدة سنة ونصف السنة فقط (أغسطس 2013- فبراير 2015) وهي فترة قصيرة جدا بمعايير الأمم المتحدة، وكأن ذلك التعيين مقصود كمقدمة لتحريكه إلى فلسطين خلفا لروبرت سيري الذي لم يكن مرضيا عنه إسرائيليا. وتم تعيينه في اليوم نفسه الذي أعلن عن نهاية ولايته في العراق في 5 فبراير 2015، أي أنه في هذا الموقع الحساس لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة تقريبا. ومن يعتقد أن أحدا يعين في هذا المنصب من دون أن تكون هناك مشاورات أو جس نبض لإسرائيل، أو على الأقل للولايات المتحدة فهو خاطئ.
الفرصة لانتخاب أمين عام جديد من أوروبا الشرقية واردة جدا، فهي المجموعة الجغرافية الوحيدة التي لم ينتخب منها أمين عام. المنطقة الأخرى التي كانت لغاية 2016 لم تحظ بمثل هذا الشرف هي أوروبا الغربية وقد انتهت تلك الصفحة بانتخاب البرتغالي أنطونيو غوتيريش. وقد نافسه على المنصب نحو عشرة مرشحين على الأقل من أوروبا الشرقية. والمنافسة في انتخابات أمين عام جديد في المرة المقبلة قد تكون محصورة بين مرشحين من أوروبا الشرقية، ونكاد نجزم أن ملادينوف قد يكون من أقوى المرشحين، خاصة إذا بقي الطرفان الأساسيان راضيين عنه.
إذن ليس من قبيل الصدفة أن جميع العناصر تقريبا التي وردت في خطاب نيكي هيلي أمام الجمعية العامة يوم 13 يونيو حول تفسيرها للأحداث في غزة، نعكست بكاملها في خطاب ملادينوف أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء ولكن بطريقة مقنعة… فكلاهما يعمل على تحقيق طموحه ويعرف أقصر الطرق إلى لتحقيق ذلك الهدف.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي