قراءة مختصرة في مخرجات ورشة المنامة

2019-07-09 07:04:55

عُقدت ورشة البحرين بحضور اسرائيليين وعرب وآخرون برعاية الولايات المتحدة وبمقاطعة الفلسطينيين. آراء متنوعة رشحت تلك الورشة ومخرجاتها، كُثر رأو انه لازمها الفشل، وبعض اعتقدوا عكس ذلك. بديهي ان تتباين الاراء وان تتباين التقييمات ازاء معنى ومخرجات هذا اللقاء، لاختلاف منطلقات ومعايير التحليل لكل طرف. الفلسطينيون بدورهم، قيادة وفصائل وأفراد رفضوا تلك الورشة، وقالوا الكثير لتجريدها من أية مشروعية وحثوّا الآخرين على مقاطعتها (لكن دون ان ينجحوا) كونها "مؤامرة" يحيكها البيت الأبيض للإنقضاض على ما تبقى من حقوقهم الوطنية. أما اسرائيل والولايات المتحدة، فهذه الورشة بالنسبة لهما كانت محطّة ذهبية في اتجاه التطبيع بين العرب واسرائيل ولتعزيز التعاون الاقتصادي والامني والعسكري بينهما، خاصة في ظل تعاظم الحديث حول ما يسمى بالخطر الايراني، أو أية تهديدات أخرى لمصالحهما في المنطقة. أما العرب، فقد حضروا لكن بخجل واسْتِحْيَاء، فهم يعلمون أنهم ينفذون فعلا لا ترغب به وربما تعارضه قطاعات كبيرة من مواطنيهم. كما يدركون أيضا انهم عاجزون عن عصيان ادارة ترامب لجعلهم أدوات إجهاز على ما تبقى من حقوق للفلسطينيين مقابل دعم أنظمتهم وحمايتهم في منطقة تنشط فيها العواصف السياسية والتي كان آخرها الثورات العربية. الآن، وبعد ان انفضّت ورشة المنامة، هل يمكن القول انها فشلت كما يعتقد يفترض لفلسطينون؟

الاجابة على هذا السؤال تستدعي التوقف امام اربعة قضايا اظنها هامة، هي:

أولا: رفض المبادرات لا يعني بالضرورة إفشالها. ليس من الصعب ان يخلص المراقب الى استنتاج مفاده ان لا علاقة تُذكر بين رفض أو قبول مبادرة أو خطة ما من جهة، وفرص نجاحها أو فشلها من جهة أخرى، حيث ان الشأنين مختلفين. تاريخيا، فقد رفض الفلسطينيون الكثير من المبادرات المجحفة (التي لم يكن من الممكن قبولها)، لكن دون ان يتمكنوا من إفشال تنفيذها على الارض بصيغة أو أخرى، أو من التصدي الناجح لارتداداتها الكارثية عليهم فيما بعد. فقد رفض الفلسطينيون مبادرات (أو مؤامرات كما يرونها) كثيرة مجحفة بحقوقهم بدءا بوعد بلفور عام 1917 وقرار التقسيم عام 1947 وقرار مجلس الأمن الدولي 242 عام 1967، ومرورا بخطط روجرز عام 1967-1971 واتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وانتهاء بخطة ريغان عام 1982 وقمة كامب ديفيد عام 2000، لكن دون ان يستطيعوا إفشال أي منها. في ذات الوقت، قبِل الفلسطينيون مبادرات أخرى كقمة مدريد عام 1991 وإعلان المبادئ/واتفاق أوسلو عام 1993-1995 وإعلان بوش/المبادرة العربية، وتحفظوا على مبادرات أخرى كخطة فهد عام 1982وخطة جورج بوش الابن وخارطة الطريق عام 2002-2003 وقمة أنابوليس عام 2007 وخطاب نتنياهو في بارإيلان عام 2009 لكن دون أن يتمكنوا عبر ذلك من درء ما لا يريدون!

لقد وُظِّفَ رفض الفلسطينيين للكثير من المبادرات (قرار التقسيم مثلا) لغرض الاساءة اليهم وشيطنتهم وإظهارهم متطرفين ارهابيين غير راغبين بالسلام، تماما كما تم توظيف قبولهم لمبادرات اخرى (اتفاقيات أوسلو مثلا) لإجبارهم على التنازل عن حقوقهم والانصياع لإرادة المُحتل وإنشاء علاقة عبد بسيّد مع دولة الاحتلال. إن عدم مشاركة الفلسطينيين في ورشة المنامة ورفضهم التام لها ربما لا يخرج عن هذا السياق، فرغم ان هذا الرفض يأتي كضرورة وطنية وكاحتياج سياسي داخلي، الا ان إفشال "ورشة المنامة" يبقى بحاجة الى ما هو أكثر من الرفض والمقاطعة، فهو يستلزم صلابة داخلية وإعادة تعريف لقواعد العلاقات الفلسطينية العربية والاقليمية والدولية، ولأن ينتقل الرفض الفلسطيني مما لا يريدون الى بديل يفرضونه على الآخرين!

ثانيا: ورشة المنامة جزء من "الصفقة". برر الفلسطينيون رفضهم "ورشة المنامة" بكونها جزء من "صفقة القرن"، وهي الخطة التي تسعى الولايات المتحدة عبرها إلى إنهاء الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين. ووفق ما رشح عنها، تحتكم تلك الخطة الى ثلاثة مرتكزات مترابطة: استبدال قررات الشرعية الدولية كأساس لحل الصراع بالرؤية الاسرائيلية اليمينية الصرفة؛ ايجاد كيانية فلسطينية انسانية (وليس سياسية) غير متواصلة جغرافيا ومنزوعة السيادة ولا تملك الا القليل من الموارد الذاتية؛ تحميل البلدان العربية (خاصة الخليجية) أعباء وأكلاف توطين الفلسطينيين في الاردن ولبنان وسوريا، والانتقال بعد ذلك الى تطبيع كامل لعلاقات اسرائيل العربية اقتصاديا وماليا وأمنيا.

تتيح هذه الخطة لاسرائيل فرصة ذهبية لتسوية صراعها مع الفلسطينيين لكن بشروطها ودون تدخل من أحد، وهي ترى بتلك التسوية خطوة حاسمة للإجهاز التام على القضية الفلسطينية لشرعنة سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية. وتظن اسرائيل ان ذلك يمثل فرصة نوعية للتحول الى دولة اقليمية عُظمى وأصيلة، تساهم بقوة في تقرير حاضر ومستقبل المنطقة وشعوبها ومقدراتها الاقتصادية. معلوم ان للشق الاقتصادي والمالي وزن كبير فيما تخطط له الولايات المتحدة واسرائيل، فهما تدركان جيدا ان الاقتصاد أمر حاسم في تحقيق التنمية والازدهار والاستقرار السياسي الذي طالما انتظرته شعوب المنطقة. في هذا السياق تأتي ورشة المنامة، فمن وجهة نظر من صممها هي بداية مرحلة جديدة يُزعَم انها ستعود على الفلسطينيين بالرخاء وبحبوحة الحياة والعيش الرغيد، بعيدا عن الارهاب والتطرف والعدمية.

ثالثا: الاقتصاد مفتاح للسياسة وليس العكس! لم يغب المكون الاقتصادي عن اتفاقيات اوسلو 1993، خاصة في بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي سعت عبره اسرائيل الى السيطرة الكلية على الاقتصاد، ما عزّز من اعتمادية الفلسطينيين على أموال المانحين. وقد زاد من تعقيد الامر اقتصاديا تبني الفلسطينيين مبادئ اقتصادية تكبيلية، عبر اختيارهم نظام اقتصادي يقوم على سطوة السوق، وعلى ارشادات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (الاقتصاد النيوليبرالي). لقد تمخّض عن ذلك نشوء اقتصاد خدمي هش، غير مُقاوم، يفتقد القدرة على التصدي الحقيقي لسياسات الاحتلال، ما عمّق من اعتمادية الفلسطينيين على الاطراف المانحة. السلطة اليوم غير قادرة على إدارة شأنها في ظل تضاؤل دعم الاطراف المانحة، وفي ظل قرصنة اسرائيل لأموال المقاصة. كما ان اقتصادها غير تنموي كونه يعتمد على قطاعات غير منتجة كالاتصالات والعقارات والبنوك وعلى تقديم القروض والتسهيلات المالية لشراء البيوت والمركبات وللزواج، ما حوّل الفلسطينيين الى جمع من المُستهلكين وعُملاء بنوك ومصارف بعد ان كانوا يوما مقاومين عنيدين للاحتلال. إن حال كهذا: سلطة فلسطينية محدودة الموارد والسيادة، واقتصاد أسير وهشّ، وجمهور تطحنه ماكنة الاستهلاك، من شأنه أن يُنتج مستقبلا فرصا سانحة للانقضاض على الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر تمرير صيغ تشتريها المليارات.

رابعا: تهافت وهرولة الانظمة العربية سيستمر. لقد كشفت "ورشة المنامة" عن ثلاثة حقائق: مستوى التعاون والتنسيق الرفيع بين اسرائيل والولايات المتحدة، وقدرة الفلسطينيين على رفض ما لا يريدون، ومستوى التهافت والهرولة لبعض الانظمة العربية (خاصة الخليجية). إن هذه الورشة ما كان لها أن ترى النور لولا حالة الانحدار الحاد التي تُسيطر على الحالة العربية وما تشهده من عنف وتمزق وحروب وخلافات بينية ونعرات مذهبية (سني وشيعي) ومن تشظّ وانقسام. ولِكون هذا الانحدار لا يبدو انه سيتراجع، فإن من المرجح ان يستمر التدخل الخارجي بالحالة العربية سواء كان ذلك من طرف اسرائيل أو الولايات المتحدة أو ايران. إن قتامة المشهد العربي الراهن، وانكساراته المتشعبة، ستبقى تسمح لظهور مبادرات مجحفة كورشة المنامة، سيبقى الغرض منها الإجهاز على القضية الفلسطينية، بعد أن اصبح ذلك شرطا لاستقرار أنظمة الحكم الراهنة.

الآن، ما العمل؟ استنادا الى عدالة قضية فلسطين والى امتلاك الفلسطينيين الكثير من الموارد والمقدرات (المادية والرمزية) والمسوغات الاخلاقية، يستطيع الفلسطينيون فعل الكثير لحماية حقوقهم الوطنية الثابتة من بين ذلك ما يلي:

1. الانتقال من الرفض والعِتاب الى الافعال العينية. ويقتضي ذلك تقوية المناعة الداخلية وتحصين الذات ضد ما يُحاك ضد الفلسطينيين، ويشمل ذلك انهاء فوري للانقسام ومعالجة آثاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الكارثية، واصلاح جميع المؤسسات السياسية الفلسطينية، وتحديد مستقبل السلطة الفلسطينية.

2. اعادة تعريف الصراع وماهية المشروع الوطني ومن هم الحلفاء والاصدقاء من فلسطينيين وعرب وعجم ومن هم غير ذلك! ولا بد ان ينبثق عن ذلك برنامج سياسي تحرري، تتجاوز تخومه حدود سلطة ونظام سياسي أصابهما الوهن والكساح.

3. الاعداد لاقتصاد تحرري مقاوم يستمد عزيمته من قدرته على التحدي، ولا يرتهن الى البنوك والاحتكارات. فالاقتصاد المطلوب هو اقتصاد تنموي مقتدر، يعزز صمود الناس على الارض امام سياسات الاحتلال الاستحواذية، ان هكذا اقتصاد لا يجوز ان تكون اولوياته اثراء القلة على حساب الجميع، كما لا بد لنطاقه ان يتجاوز حدود رام الله ليمتد الى الشمال والجنوب والى القرى والمخيمات والى مضارب البدو.

4. تجريم التطبيع العربي (والفلسطيني) مع اسرائيل كونه يلحق افدح الاضرار بالفلسطينيين، والكف عن التضليل في تورية المواقف الحقيقية للانظمة العربية المتهافتة (خاصة الخليجية) اتجاه فلسطين، والتي أصبحت مقلقة بخطورتها على مآلات الحقوق الوطنية الفلسطينية.

أخيرا، إن الورشة أو "الصفقة" المقبولة فلسطينيا هي ليست ورشة أو صيغة يدعو اليها الامريكيون ويحضرها اصحاب الجلالة والفخامة العرب، ويغتبط لها الاسرائيليون، وانما هي تلك الورشة او "الصفقة" التي تكون بوصلتها انعتاق الفلسطينيين وانتزاع حريتهم، الامر الذي يتحقق فقط عندما يكونون هم أصحاب كلمات الافتتاح وتحديد المحاور والعناوين ونوع الحضورن وكامل التوصيات وملاحظات الختام.