سحر اللامتحقق

2019-08-20 07:47:36

الأطفال والمجانين والأموات هم وحدهم الأحرار تماماً. اندهش طلابي لكلامي هذا، وهمسوا: لقد جن أستاذنا. حصتنا هذا اليوم ستكون حصة جنون وحلم وتدمير للعرف التربوي، سنقفز من النافذة واحدا تلو الآخر. سنختار أن نكون إما مجانين وإما أمواتاً وإما أطفالاً، دون أن نأخذ إذناً من أحد، أترون تلك البحيرة القذرة هناك، سنذهب إليها ونتحلَّق حولها ونجرب أن نخرب تقاليد هذا اليوم الدراسي، وأن نستبدل هذه التقاليد بتقاليد غريبة، بحثاً عن الإنساني المشوه فينا، عن طاقتنا على الحياة، عن حقنا في التجريب وممارسة الأخطاء.

قال ماجد: سيغضب المدير لأننا لم نأخذ إذنه للخروج.
قال رام: ليغضب، نحن نريده أن يغضب. ألسنا نهدف إلى التخريب؟
قال فراس: لكن التخريب عمل غير جيد لأنه يؤدي إلى خراب المجتمع.
قال عمر: لا أتفق معك. هذا يعتمد على ما سنخربه.
قال ماهر: أنا سأخرج من بوابة المدرسة لأنني لا أستطيع القفز من النافذة بسبب ألم في كاحلي.
قال وسام: لتبقَ في الصف إذن. أنت لا تصلح للجنون.
قلت أنا: الألم ضروري لاكتشاف هنائنا الداخلي، اقفز وتألم مرة أخرى، لأنك ستصل قبلنا لإشراقات الجنون.
قال أنس: أستاذ أنت غريب جداً، كيف تنصح شخصاً بالألم؟!
سمعت أحمد يهمس: بالفعل، أستاذنا مجنون.
قلت: أو قد أكون طفلاً أو ميتاً، وتعلم دائما أن ترفع صوتك في الحديث، لا تهمس برأيك همسا، يا أحمد هناك مساحة هائلة هنا من حرية الرأي، تذكر ذلك، ألسنا مخربين للوضع الاجتماعي السائد، حيث لا يتمكن إنسان بلادنا من إبداء رأيه في وجه أبيه أو معلمه أو حاكمه أو شيخ الجامع، لقد خربنا هذا التقليد واستبدلناه بتقليد آخر: أن نتحرر من الخوف ونقول ما نحسه تماماً.

قال عمرو: الآن عرفت معنى التخريب، انه يعني تحطيم السيئ، وهذا سلوك رائع.

ضج الصف بشغب مفاجئ، اشتبك الطلاب مع بعضهم البعض في نقاش عنيف، تخلله صياح واتهامات،

طلبت منهم أن يصمتوا ويستمعوا إليّ: تذكروا أن الجنون والتخريب لا يعني الفوضى والصياح والتجريح، تذكروا أن التحرر من السجون التي فينا هو عمل منظم وواعٍ، وان التخريب الجميل هو عمل إنساني وأخلاقي يهدف إلى البحث عن النضير والمزدهر والأزرق فينا، لا لا فائدة أبداً في كلامنا وإيماننا إذا لم نقرن هذا الكلام بسلوك.

لنبدأ الجنون.
ماذا اخترتم أن تكونوا؟
قال القليل منهم: مجانين.
قال الكثير منهم: أطفالاً.
طالبان اثنان فقط اختارا أن يكونا ميتين.
الصف الثامن يقع في الطابق الثاني، والعلو ليس مرتفعاً جداً. قلت لهم: اقفزوا ورائي واحداً تلو الآخر، مع صيحة يطلقها كل قافز تعبر عن فرحه بالتحرر من الجدران، قفزت أمامهم، مع صيحة فرح وحشية، فقفزوا ورائي، مالئين الدنيا صياحا، أكثر من نصف الطلاب بقوا في الصف، أطلوا برؤوسهم واعتذروا قائلين: لا نستطيع أن نمارس هذا الجنون، سيغضب المدير منا، ونخاف من آلام القفز، ثم أننا غير مقتنعين بالفكرة.
قلت لهم: رائع أن تختاروا موقفاً حتى لو كان معارضاً لفكرتي، لكم الحرية في الرفض، مطلق الحرية لكم.
مشيت مع الطلاب الخمسة عشر متجهين إلى البركة القذرة القريبة من المدرسة، أطلت رؤوس المدرسين والطلاب من الصفوف المختلفة، أطلت ساخرة وغاضبة ومستغربة، سمعنا الفوضى تدب في أنحاء المدرسة، صاح الطلاب: يا مجانين!