المثقف في ميزان القضية الفلسطينية!

2019-11-17 16:27:18

لم تستطع بعض الحركات الفلسطينية باختلافها أن تضم المثقف الفلسطيني لها، فبدلا من ان استغلال وتمكين قدراته في الدفاع عن القضية الفلسطينية وحمايتها، ولبناء ترابط عضوي بينها وبين الجماهير، عملت على تحويله إلى رجل سياسي وبوق حزبي دون استغلال ثقافته في توليد طاقات شعبية تسير بإستراتيجية تحررية أو انشاء اجيال واعية بطبيعة الصراع والقضية، وبهذا خسرت الحركات السياسية الفلسطينية وجود رجال سياسيين اصحاب ثقافة يعملون على تشخيص المرحلة والدفع نحو الاصلاحات، ناهيك عن انها لم تربح الثقافة اللازمة لخلق كوادر يستطيعون مواجهة التحديات والمعضلات التي تلم بالقضية والمجتمع الفلسطيني.

 ويظهر جليا في الحالة الفلسطينية البُعد الكبير بين الساحة التي تحتلها التنظيمات والاحزاب السياسية، وبين المثقفين الفلسطينيين الذين لا تسمع اصواتهم خارج قاعات المؤتمرات او الندوات الثقافية، تلك الحالة التي خلقها الاحتلال وعمل على ترسيخها المصالح الحزبية السلطوية للتنظيمات الفلسطينية.

 إن خلق حالة من النقد وكشف العيوب التي تسكن الجسد الفلسطيني السياسي يضر بالفاسدين والوصوليين والسلطويين والكمبرودورات، ويعمل على تطهير وتقوية البيت الفلسطيني في مجابهة الاحتلال، ومنعه من كي الوعي الفلسطيني.

 فأمسى بناءا على هذا تضاد كبير بينهم، مما استلزم خوض حرب من هذه الاطراف على المثقفين الأحرار، التي كانت من نتائجها انعزال المثقفين عن الساحات الشعبية والمعتركات السياسية العلنية، إما لوصولهم لمرحلة الاحباط واليأس الثوري، أو خوفا من أن تطال يد خصومهم رقابهم، فضلاً على ذلك أن الكثير من اطراف الصراع استطاعت شراء ذمم المثقفين واستثمار ثقافتهم وعقولهم في خدمة الأنا الحزبية.

 إلا أن لكل قاعدة استثناء، فهناك من يرفض أن يكون متقوقعا في مجرد رداء الرجل السياسي العادي، أو حتى  مثقف عادي التي عملت الحركات السياسية على طمس ثقافة العديد منهم، ولم تؤرقهم محاولات طمسهم هوياتهم وملاحقتهم وتوجيه التهديدات وتشويههم أو شراء ذممهم، كأمثال ناجي العلي،و باسل الأعرج، أولئك المثقفين الذين اختلفت مواقعهم الجغرافية وأوقاتهم الزمنية لكن جمعتهم الظروف السياسية الواحدة المتشابهة، فباسل الذي توجه إلى القراءة في جمع المعلومات عن القضية الفلسطينية  والتاريخ الفلسطيني، وتوعية الشباب بقضيتهم وتعريفهم بتاريخهم، وكذلك ناجي الذي توجه إلى الرسم الكاريكاتيري لتوعية العالم بالقضية الفلسطينية وإيصال الحقيقة للجماهير العربية، فكلاهما ذاقا مرارة الاحتلال، وبأس الاخ الفلسطيني، و كلٌ منهم دافع عن فلسطين بطريقته، وسار في طريق واحد وهو الطريق إلى فلسطين.

 اشتهر باسل الاعرج بكتاباته وتنظيره للثورة والمقاومة، فهو ناشط ومثقف وباحث أُطلق عليه"المثقف المشتبك، لإيمانه بإنعدام القيمة الثقافية لمن لا يستفيد منها في مقارعة الاحتلال وأذرعته، على الرغم من كل ما كان يملك من تأثير ومعرفة يمكن تُستخدم في خدمة القضية الفلسطينية وتقوية الجبهة الفلسطينية في صراعها مع العدو الصهيوني، إلا أن الشهيد باسل الاعرج تعرض للاعتداء من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، بسبب مشاركته في تظاهرات أبرزها التي كانت ضد زيارة  وزير الدفاع الاسرائيلي السابق شائول موفاز لرام الله، وتم تهديده من قبل عدنان ضميري(وفق ما جاء في لقاء صحفي على قناة فلسطينية).

تأثر باسل الاعرج تأثرا كبيرا  بالفيلسوف الإيطالي أنطونيوا غرامشي الذي يرى أن المثقف العضوي هو الذي يحمل هموم جميع طبقات قضايا أمته وشعبه ويستمر في العطاء جيلاً بعد جيل، وعلى دور المثقف في التغيير الاجتماعي إذا ما التزم الممسؤولين بقضايا الشعب الأساسية، وكانت أعمال باسل الثقافية نتاج صبغة هذا التأثر، لذلك كان من المطلوبين لدى أجهزة السلطة الفلسطينية، فهي تعي دور المثقف في التغيير و التأثير على الشعب بشكل عام والذي قد يكون مناهض لمصلحتها السياسية، وبالتالي لم يسلم الأعرج من السلطة أو حتى من " الكيان الصهيوني"  فكل مثقف مقاوم مطلوبٌ إخماده.

 عانى الشهيد باسل الاعرج من السلطتين السياسيتين الفلسطينية و الاسرائيلية، ففي عام 2016 اعتقلت أجهزة السلطة الامنية باسل مع عدد من رفاقه وعُذِّب في سجونهم لمدة خمسة أشهر بتهمة التخطيط لعمليات مسلحة ضد الكيان الصهيوني، وأطلق سراحه بعد خوضه اضرابًا عن الطعام هو وستةٌ اخرين من رفاق دربه، ليصبح مطاردا لدى الاحتلال التي تمكنت من اغتياله بعد اشتباك بينهم دام لمدة ساعتين ليعلن استشهاده في السادس من مارس 2017.

 هنا نرى أن التاريخ يعيد نفسه، فمن قبله الرسام الكاريكاتيري ناجي العلي أحد اهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملوا على ريادة التغيير السياسي باستخدام الفن والثقافة، هو صاحب رسمة الكاريكاتير الفلسطينية الشهيرة حنضلة التي ترمز الى الفلسطيني المُعذب والقوي، بدأ ناجي الرسم من داخل الزنزانة الاسرائيلية راسما على جدرانها تحديه للحتلال وحبه لفلسطين، فقد اعتُقل صبيا لنشاطاته المعادية للاحتلال، من ثم وبعد سنين تم اعتقاله من قبل الجيش البناني في لبنان وهو لاجئ.

تميز ناجي العلي بنقده اللاذع للسياسة القائمة والقادة والحكام العرب من خلال رسوماته الكاريكاتيرية العاكسة لثقافته ووعيه بالقضية الفلسطينية، تلك الرسوم التي أدت الى هلاكه، "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حالو ميت"، هذا ما قاله ناجي العلي ردا على التهديدات التي وجهت له لجرأة رسوماته.

عام 1987 اغتيل ناجي العلي في لندن ضحية نكتة ساخرة مست أحد القادة الفلسطينيين من خلال رسمة كاريكاتيرية كلفته حياته، على يد بشار سمارة عضو منظمة التحرير الفلسطيني وعميل للموساد الاسرائيلي برصاصة على رأسه.

اختلفت الازمان والسياسة واحدة، فباسل الاعرج وناجي العلي فلسطينيان مثقفان، استغلوا ثقافتهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية وروحهم كانت الثمن، مثلما قال العلي: "هكذا أفهم الصراع: أن تصلب قامتنا كالرماح ولا نتعب"، ومن هنا نجد نهاية المثقف في حال سعيه لكشف الحقيقة للجمهور.