مــن أنــــــــا؟

2019-11-27 10:36:31

إذا وقفتَ أمام المرآة، أو إذا التقطت لنفسك صورة "سيلفي"، سترى الكائن الوحيد الذي تملكه ملكية خالصة، والذي سيعيش معك إلى الأبد.. ذلك الكائن، هو أنت.. ربما تسأل نفسك: من أنا؟ غالبا ستجيب بسرعة: أنا فلان، وكأنك تفهم ذاتك تماما، وتعي وجودك بكل وضوح، ولكن، إذا كنت في لحظة صفاء ومصارحة صادقة مع النفس، ستجد إجابات عديدة، ومتناقضة.. وربما لا تعجبك.

يقول علماء النفس، إن الإنسان يُرى من أربع زوايا؛ الأولى: يرى نفسه بوضوح، بنفس القدر الذي يراه فيه الآخرون (الشخصية الظاهرة)، والثانية: يرى نفسه بشكل ما، لا يراه غيره (وهنا العالم الجواني، والذي يظهر فيه أحيانا وهم التفوق)، والثالثة: يراه فيها الآخرون، ولكنه لا يراها (هنا الشخص يغفل عن صفات معينة قد تكون متعبة للآخرين)، أما الرابعة فلا يراها لا هو ولا غيره؛ زاوية معتمة، غامضة، تشبه منطقة مجهولة غير مستكشفة (وهذه المنطقة تتفجر أحيانا جنونا، أو عبقرية، أو مواهب دفينة).

إذا التقيت شخصا ما (أو مجموعة أشخاص)، ورغبت بالتعريف عن نفسك، في كل مرة ستجد أنك تعرف عن ذاتك بشكل مختلف، حسب المناسبة، فربما أول ما يخطر ببالك أن تقول أنا فلان، من القرية الفلانية.. أو تقول أنا فلسطيني، عربي، مسلم، إنسان... وبالتأكيد لكل شخص ترتيبه المختلف.. وإذا أردت التخصيص أكثر قد تقول أنا من الحزب الفلاني، أو ناشط في مجال البيئة، أو مناصر لقضايا المرأة، أو مدافع عن حقوق الأطفال.

أحيانا يلزم التعريف عن نفسك بأولوية جديدة، كأن تقول أنا مهندس (إذا كنت ستقدم إلى وظيفة)، أو أنا نباتي (إذا كنت مدعوا على وليمة). أو تقول أنا من برج العقرب، إذا كنت في جلسة دردشة. وفي موسم الكلاسيكو ستقول أنا "مدريدي". وربما تقدم أولوية لون بشرتك (إذا كنت عنصريا) فتتصرف بمنطق الرجل الأبيض. أو تعرف نفسك بأنك "سُـنّي" في حُمّى الجنون الطائفي. أو تحتار بين جنسيتك الأميركية وأصولك العربية. أو تفاخر برجولتك إذا كنت في مجلس ذكوري.. وربما تهيمن عليك فكرة أنك مجرد أب في لحظة ما، أو أخ، أو موظف، أو مندوب مبيعات. 

من أنت؟ لا تتعجل في الإجابة، لأنها ستحدد هويتك، وشخصيتك، وأسلوب تفكيرك، وأولوياتك.. لا شك أن للإنسان شخصيات متعددة، ومركبة، ومتعايشة معاً في آن واحد.. فتطغى إحداها على الأخرى في لحظة ما، ثم تختفي في لحظة أخرى، وهكذا.. وعيك لذاتك يتغير مع السنين والتجارب، وهذا وضع طبيعي.. وربما تعاني من انفصام في الشخصية، أو تعيش بشخصية مزدوجة، أو بشخصيات متعددة، وهذه حالات مرضية غالبا.

نحتاج أن نعي حقيقة وجودنا، ونتعرف على دواخلنا بشكل حقيقي.. وهذه مسألة صعبة، وتحتاج شجاعة.

أحيانا تقول لنفسك: أشعر بالخجل من نفسي، أو "زهقان حالي"، أو أكره حياتي.. والسؤال هنا: من الذي خجل من الآخر؟ من الذي ملَّ، وكره، وأحبّ؟؟ هل انفصلت عن ذاتك، وانشققت إلى نصفين، وصار كل نصف يكلم الآخر، ويبوح له بمشاعره؟؟ ربما يجيب البعض "إنه الضمير".. فما هو الضمير؟ هل هو عقلك الواعي؟ أم عقلك الباطن؟ أم روحك؟ أم شخصيتك الأصلية التي تشكلت في الطفولة؟ هل للضمير تشكّل مادي؟ هل له وحدة قياس؟ ودرجات؟ ومن يحددها، وكيف؟؟ أسئلة لا تنتهي.. ولكن يتوجب طرحها. 

إذا كنتَ تعي نفسك من خلال جسمك (إشباع الحاجات الأساسية).. فهذا الجسم مكون من جينات جاهزة ورثتها دون إرادة منك، وهذه الجينات تحدد كل معالم شخصيتك، كما أن هذا الجسم يتبدل ويتجدد على الدوام؛ تموت الخلايا، ويتساقط الشعر، والأظافر، وكريات الدم.. ويحل محلها جسم جديد، وهذا الجسم الجديد يتشكل من مكونات الطبيعة، فيدخل في تركيبه قطرات من المحيط، وعناصر من شجرة بعيدة، أو من نبتة زرعها فلاح في بلد مجاور، أو من دجاجة تربت في مزرعة نائية.. وتلك الكائنات تغذت على أعشاب في قارة، وخضراوات من قارة أخرى، وطرائد من غابات مطيرة.. وجميعها تكونت أصلا من عناصر ومركبات نشأت من الأرض، التي تشكلت من غبار النجوم، عبر ملايين السنين في دورة الطبيعة التي لا تتوقف. والخلاصة أننا جزء من الطبيعة، وجزء من الكون، متحدين معا، وما يميز الإنسان عن النهر، وعن الهواء، وعن الطحالب والطيور والسلاحف هو ترتيب ذرات نفس العناصر.

سيقول البعض، إن الإنسان يتميز، ويعي نفسه من خلال الروح، أو النفس، أو الضمير، أو الوعي، أو الإدراك، أو الأخلاق... وتلك جميعها مكونات غير مرئية، وغير محسوسة، ويصعب على العلم قياسها، وإثبات وجودها.. لكنها بالتأكيد موجودة.. أو أنَّ الإنسان اختلقها لإثبات تفوقه على بقية الكائنات. 

في سياق متصل، وحسب العلماء الذين يعتبرون الإنسان مكونا من أعصاب وخلايا وهرمونات وتفاعلات بيوكيميائية وعمليات أيضية.. تندرج فيها المشاعر والعواطف والتفكير والانفعالات.. يرى هؤلاء أن الحب هو تفاعل هرموني، ينشأ ويجري في العقل بفعل أنزيمات الدوبامين، التي تمنح شعورا بالسعادة والرضا، والانجذاب للطرف الآخر.. وحين يضعف هذا الإنزيم، يضعف معه الحب.. ما يعني أن للحب فترة صلاحية، مدتها بحدود السنة للرجل، وسنوات أطول بكثير عند المرأة.

في حقيقة الأمر، هذا تعريف متعسف للحب، وغير إنساني، والأصح أنّ هرمونات الدوبامين والأوكسيتوسين وغيرها، هي انعكاس لمشاعر إنسانية صافية، أي استجابة كيميائية غير عاقلة لفعل حر عاقل، في عملية تأثير متبادل. المشكلة أن بعض العلماء، يزجون بالعلم في أمور يصعب على العلم فهمها وتفسيرها.. فصاروا أصوليين، مثل رجال الدين، الذين يعتقدون أن لديهم إجابات عن كل سؤال.

يرتبط الحب بدرجة الوعي الإنساني، فإذا كان الوعي عند حدود إشباع الحاجات الأولية (الجنس مثلا) سيكون الحب (والزواج) لتلبية هذه الحاجة، وهنا بالفعل سيكون للحب مدى قصير، وإذا ارتقى بوعيه لمرحلة البحث عن تقدير الذات، وتقدير الآخرين، سيرتقي الحب درجة، وسيطول أمده أكثر، وإذا وصل الوعي لدرجة فوق تلبية الحاجات البشرية، والتحم بالحب الكوني الأسمى، سيكون حبا إنسانيا يدوم طوال العمر.. أي حب الذات، والطبيعة، والحياة، وكل الناس.. بتجرد يسمو على التفاصيل.

لذا، حتى تدرك ذاتك، وتفهمها، وتحبها، وتحب حياتك، وقرينك، وأحباءك، والعالم.. عليك أن تعرّف هويتك بأنك إنسان أولاً، قبل أي شيء آخر.. تجمعك مع الآخرين رابطة الإنسانية.