سجادة غزة الحمراء

2019-12-10 09:12:31

قبل أكثر من عشر سنوات بقليل، كانت غزة خارجة لتوها من حرب إسرائيلية ضروس، استمرت ثلاثة أسابيع، وتركت وراءها أكثر من ألف وثلاثمائة شهيد ونحو خمسة آلاف جريح، 90% منهم من المدنيين، ودمارا هائلا، وحدث أنه كان قد تم اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية في ذلك العام (2009)، وكان يجب أن تشمل فعالياتها عموم الوطن الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات، لذا فقد قمنا بالتحضير عبر لجنة ثقافية تشكلت من ممثلي الاتحادات العاملة في الحقل الثقافي، ورغم أن غزة كانت واقعة منذ نحو عامين في ذلك العام ضحية للانقسام، ولحكم حماس العسكري، إلا أننا نجحنا في تنفيذ: أولا المشاركة في حفل الافتتاح المركزي، وتاليا في تنفيذ عشرات الفعاليات الثقافية على مدار العام.
وقد شارك في تلك الفعاليات عشرات المؤسسات الثقافية العاملة في القطاع، بالشراكة مع فصائل العمل الوطني، حيث أحدثت حراكا شعبيا/ثقافيا، خفف من وطأة الظلام الذي كان يلف القطاع، وكان يمكن أن يستمر ذلك الحراك، لو أنه تم احتضانه رسميا حتى يتواصل ويتحول إلى حراك دائم، لكن الأمر انتهى مع انتهاء الفاعلية المركزية، وعادت الأمور لتنكفئ الثقافة وتتأثر بحالة الانقسام السياسي.
ولعله بين فينة وأخرى، تتجلى أهمية الثقافة كفعل شعبي أولا، وثانيا كفعل متحرر ولو بشكل نسبي من حسابات السياسة الآنية، حيث كانت الثقافة الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن، عامل إنهاض للواقع الفلسطيني، فهي حافظت على الهوية الوطنية حين تعرضت للتبديد ومحاولة الطمس، فكانت بشائرها وتجلياتها من موقع الصراع المباشر مع العدو في مناطق الـ 48، بوصلة قدمت رموز الهوية الوطنية، حيث تلقى ملايين الفلسطينيين ثقافتهم بعد ظهور شعراء المقاومة في مطلع ستينيات القرن الماضي، ثم واكبت الثقافة الثورة حين انطلقت منتصف ذلك العقد، وكانت دائما بوصلة للوحدة الوطنية، وكان عن حق دائماً ما يتم اعتبار انعقاد مؤتمر الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين «بروفة» للمجلس الوطني لـ (م ت ف).
لكن مع تقدم العمل السياسي وتوليه زمام قيادة الشأن الوطني، تم إلحاق الثقافة الوطنية بالسلطة السياسية، وتحول الحقل الثقافي إلى حقل رسمي، والى ميدان محاصصة بين الفصائل، ثم ارتبطت الثقافة بمعظمها بعد ذلك بالسلطة الرسمية، فيما كان اتجاه ثقافي آخر يشق طريقه ضمن مسار المنظمات الأهلية، ومعاييرها المرتبطة بالمجتمع المدني، وهكذا صارت الثقافة الفلسطينية خاضعة لتأثيرات الرسمي من جهة، والخارجي من جهة أخرى، فخرجت من سياقها الحر وخضعت لحسابات متعددة، خاصة في حقول إنتاجها الجماعي، الذي يحتاج إلى مؤسسات وميزانيات، وهذه سمة ثقافة العصر على كل حال، حيث تراجع حضور المنتج الثقافي الفردي.
نستذكر ذلك، بمناسبة انعقاد المهرجان السنوي للسجادة الحمراء، مهرجان سينما حقوق الإنسان الذي ينعقد في غزة سنوياً ومنذ عام 2014، وتشاء الصدفة أن ينعقد أيضا كرد ثقافي شعبي حر على الحرب الأخيرة على قطاع غزة، التي شنها الاحتلال الإسرائيلي عليها في ذلك العام.
يريد المشرفون على المهرجان الرد على الدمار الذي يستهدف روح غزة، وروح المقاومة الفلسطينية الباسلة، وكمحاولة لشق الطريق لحقل كفاحيٍ أرباحُ الفلسطينيين فيه كاملة، وخسائر الإسرائيليين فيه مطلقة وتامة، ذلك أن حقل الثقافة كما هو معروف أكثر إنسانية من حقل السياسة، والكفاح الفلسطيني من أجل الحياة إنما هو فعل إنساني بشكل مطلق، فيما البطش الإسرائيلي هو عمل وحشي بشكل تام.
ويواجه القائمون على المهرجان مشاكل لا حصر لها، حيث لا توجد حتى دور للعرض، لذا فقد جعلوا من الساحات العامة، أماكن لعرض أفلامهم، واعتمدوا على التمويل الجماعي، أي ليس من جهة واحدة، فكان أمميا _عربيا_وفلسطينيا محليا، وهكذا قالوا إنه يوجد في غزة شيء آخر غير الموت، وغير القهر والإحباط، يقاومون بأدواتهم الإنسانية وبإبداعهم الفني، العدو الخارجي والجهل الداخلي، وحتى الحسابات الحزبية الضيقة، فعروضهم في الهواء الطلق مفتوحة للجميع، تبحث عن الهواء النقي، وتسعى للحياة ما استطاعت إليها سبيلاً.
في حقيقة الأمر، لقد بات الوقت مناسباً للقول بأن الثقافة الفلسطينية تحقق المنجزات المذهلة، في ظل التراجع في المنجز السياسي، وهذا هو حال الشعب الفلسطيني عموماً، يكمل بعضه بعضاً، فحين يظهر عجز النخبة، يهب الشعب بانتفاضة هنا، أو حراك هناك، وحين تعجز السياسة أو تجد نفسها في طريق مسدود، تنطلق الثقافة لتفتح الأبواب المغلقة، وهنا لا بد من القول، إن الثقافة الفلسطينية التي أنجبت المنجز الشعري العظيم منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، تضيف اليوم منجزات في حقول الرواية، السينما، الموسيقى والغناء، وفي حقل الفن التشكيلي أيضاً.
فليس أمراً من غير معنى أو مغزى، أن يفوز أكثر من فلسطيني بجوائز البوكر العربي والكتارا، ولا أمراً عابراً أن يفوز أكثر من فلسطيني بلقب محبوب العرب، وليس أمراً عادياً أن تصل السينما الفلسطينية عبر مبدعين متميزين إلى رحاب مهرجان كان العالمي.
ومن ضمن هؤلاء كانت سجادة غزة الحمراء، التي رفعت اسم فلسطين عالياً حين استضافها كان في مهرجانه السنوي صيف هذا العام، وكم كان عظيماً أن تستذكر السجادة في مهرجانها الحالي كرامة فلسطين، التي تبقى فوق كل اعتبار فصائلي، وأن تؤكد على وحدة الوطن متجاوزة بذلك انقساماً بغيضاً سببته الفصائل وما زالت تعجز عن وضع حد له، رغم مرور أكثر من اثني عشر عاماً على وقوعه.
هكذا تمضي الثقافة الفلسطينية قدماً، وتعود إلى دائرة الفعل الوطني، الوحدوي من جهة والمقاوم من جهة أخرى، لتقول بأن لدى الشعب الفلسطيني الكثير مما في جعبته، وأنه سيمضي إلى رحاب الحرية والاستقلال، طال الزمان أو قصر، وأن ثقافته ستظل درعه المنيع وحصنه المتين، وأنه سيعرف كيف يفرض الجدية في الداخل، وكيف يفرض الانكفاء على العدو في الخارج، وأن فتح جبهة الثقافة، مقدمة لإطلاق جبهة الكفاح الشعبي، حيث النصر يكون مؤكداً.