بلفور يعود

2020-02-12 09:21:53

لأول مرة في تاريخ بريطانيا يخرج كبير الحاخامات لينتصر لحزب على حساب الآخر في انتخابات عامة مصيرية. ولأول مرة تتحدث أمريكا عن اتفاق تجاري مشترك وغير مسبوق بعد طلاق بريطانيا عن أوروبا. ولأول مرة تخرج بريطانيا منذ عقود عن موقفها بخصوص القضية الفلسطينية، بعد وعدها المشؤوم وانتدابها البائد، وصناعة حكومتها لنكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. ولأول مرة تتخبط المواقف بين داعم لترامب ورافض لخطته داخل الصف الرسمي البريطاني. ولأول مرة يغير وزير خارجية أمريكا برنامج عمله ليتجه لبريطانيا على جناح السرعة، ليحتج جراء حربه التجارية مع الصين على السماح لأحد عمالقة التجارة الصينية بالدخول على عطاء ٍ للاتصالات، متعهداً باتفاق تجاري  مغرٍ مقابل وقف صفقة الاتصالات، وقبول بريطانيا لصفقة ترامب السياسية للشرق الاوسط، فما الذي يجري في بريطانيا اليوم؟

تارة يتصل جونسون، بعد أيام من تسلمه رئاسة الوزراء بالرئيس الفلسطيني معبراً عن جاهزيته التعاطي مع فكرة تقديمه لوعد جديد مقابل وعد بلفور، لتصحيح ما يعتبره العرب خطأً تاريخياً لا يغتفر، وتارة يشيد بوعد ترامب وصفقته البائسة، في مقابل إغراءات الوعود التي يطلقها شمشون السياسة الأمريكية، والوالي على بيتها الأبيض لصالح بريطانيا.

جونسون لا يريد الانكسار أمام خروجه من الاتحاد الأوروبي، ولا يريد للتاريخ أن يلعنه أمام طلاقه لأوروبا، بل سيسعى ليبرهن لخصومه وناخبيه بأن هذا الطلاق كان حميداً، وأنه قد عاد بالرخاء والاستقرار على بريطانيا التي غابت عنها الشمس. جونسون يسابق عقارب الساعة لإتمام عقد الطلاق وحسم حلفائه التجاريين الجدد أيضاً، لإحباط خطوات اسكوتلندا الزاحفة نحو الانفصال، وويلز التي تراوح، وشمال أيرلندا، التي تترنح بعد انتخابات أيرلندا الأخيرة خاصة في خضم تنامي الشعور القومي على جانبي الحدود بين إنكلترا ومقاطعاتها المتململة. جونسون المتوثب اليوم، منتش لانتصاره في انتخاباته الأخيرة، وتحقيقه لأغلبية برلمانية غير مسبوقة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. جونسون سعيد بهزيمة خصومه، وحسمه لملف الخروج من اوروبا، لكن جونسون اليوم، كما الثور الذي هزم مصارعه في حلبة النزال، لكنه يخشى أن تودي به جراحه، إن هو تمادى في معاركه. لهذا فهو يبحث عن حليف منقذ لكن على قاعدة المصالح المتبادلة. ففي السياسة لا يوجد حليف دائم أو عدو دائم، بل هناك مصالح متبادلة، وعليه فمن الواضح أن جونسون قد قرر من جديد تخلي بريطانيا عن فلسطين، في مقابل اتفاقٍ تجاريٍ مغرٍ، واحتمال قبول أمريكا باستمرار المنافس التجاري الصيني في معركة الجيل الخامس للاتصالات في بريطانيا. وعليه فإن كل ما تحقق وإيماناً بعقلية المؤامرة، بدءًا بموقف الحاخام الأكبر، وصولاً إلى جزرة الاتفاق التجاري الأمريكي البريطاني، إنما يبدو كله وكأنه قد صمم ليقود لنكبة جديدة، وبيعٍ بريطاني جديدٍ لفلسطين. لذلك أخشى ما أخشاه أن يعيد التاريخ نفسه، ويعود جونسون نسخة جديدة من بلفور، لينفذ عكس ما قاله لأبو مازن ذات يوم، فنكون جميعاً أمام بلفور2.

أياً كانت النتائج فإن أحداً لن يقتنع بعد اليوم، بأن الربيع العربي كان بمثابة ثورة على الديكتاتورية وانتصاراً للديمقراطية، وأن تصاعد المد الديني الإسلاموي المتطرف في العالم كان اقتراباً إلى الله، وأن انزلاق بعض العرب في وحل التخلي عن فلسطين وأهلها كان نتيجة عشقٍ لحظيٍ لإسرائيل ضرب هؤلاء فجأة. ما نخشاه هو أن يصل الفلسطينيون لقناعة بأن فوز المحافظين  في بريطانيا وطلاق أوروبا لم يكن بريئا! الثابت الوحيد في مواجهة المؤامرات والتنازلات والخيانات والانزلاقات والصفقات والطبخات قوله تعالى: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين!