"يهودا والسامرة" فلسطينية

2020-06-26 09:50:10

في اجتماع مجلس الأمن الدولي الذي انعقد بتاريخ 26 مايو، وبحضور كامل أعضائه الخمسة عشر بحث موضوع نية إسرائيل ضم أجزاء من الضفة الغربية،  وقد أدان عملية الضم أربعة عشر عضوا وبقيت الولايات المتحدة وحدها في مواجهة العالم.

ولما أتيح المجال لطرفي النزاع بتقديم دفاعهما أمام المجلس وقد بدأ وزير الخارجية الفلسطيني "رياض المالكي" تقديم أدلته،  تلاه "داني دانون" سفير إسرائيل في الأمم المتحدة لدى مجلس الأمن "إذا قررت إسرائيل توسيع سيادتها فستنفذ في مناطق تحتفظ فيها دائما بمطالبات مشروعة وتاريخية وقانونية".

برر عدم قانونية طلب منظمة التحرير الفلسطينية كونها لم تكن في يوم من الأيام سلطة حاكمة للأراضي المحتلة عام 1967، وهذا مبرر طالما ساقه الإسرائيليون مدعين أنهم سيطروا على الأراضي وانتزعوها من الأردن وهي من يجب مفاوضتها، لكنهم عادوا بالطلب، وفاوضوا المنظمة، واعترفوا بتمثيلها للشعب الفلسطيني، ووقعوا معها اتفاقيات أوسلو.

عودة السفير الإسرائيلي لطرح هذه القضية أرادت الحكومة الإسرائيلية من خلالها العودة بالتاريخ لما قبل تاريخ توقيع هذه الاتفاقية. لكن هذا ليس موضوعنا في هذا المقال.

موضوعنا يتعلق بالشق التاريخي الذي فصّله السفير الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي وحاول من خلاله تبرير مشروعية الضم، فقد نفى "قانونا" وجود الشعب الفلسطيني ممثلا بـمنظمة التحرير الفلسطينية بشكل كامل وهذا فيه تناقض صارخ، أما الشق التاريخي فقد قال بالحرف:" إن العالم لا يحق له أن يتدخل في  حق الشعب اليهودي في فرض سيادته على أرضه، أرض الآباء والأجداد، هذه الأرض الذي منحها الله لشعب إسرائيل منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام لإبراهيم -عليه السلام-، وتلى على مجلس الأمن النص التوراتي الوارد في سفر التكوين الإصحاح 17 العدد 8 " "وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم ]التكوين": 17 :8[

حاول دانون كما حاول أسلافه تزوير الحقائق، بل جعلوا من الله سبحانه (سمسار عقارات)، يوزع قطع أراض على الناس، فيأخذ منه هذا ويعطي ذاك، تعالى الله عما يصفون.

وهم بذلك يرفضون مسمى الضم أصلا، بل يقولون بفرض السيادة؛ لأن الضم تعني السيطرة على أرض غيرهم، والضفة الغربية " يهودا والسامرة" هي جزء من أرض إسرائيل حسب العقيدة اليهودية.

لكن التوراة نفسها وإبراهيم- عليه السلام- بأقواله وأفعاله يشيران بشكل لا مجال فيه للشك أن العدد أعلاه  من سفر التكوين قد تعرض لتحريف واضح من قبل معتقديه، فهم كما قال عنهم القرآن الكريم: " مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ" ]النساء : 46[

ويتجلى التحريف عندما عاد إبراهيم من أرض غربته في مصر إلى أرض غربته في فلسطين، ورغم تكرار وعد الله- تعالى - بإعطائه أرض كنعان،  مرة أخرى في  العدد " فصعد أبرام من مصر ... إلى الجنوب" ؛ " لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" ويتابع "فنقل "أبرام "خيامه وأتى وأقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون، وبنى هناك مذبحا للرب" . ]التكوين:12-15- 18 [

 وتحديدا في مدينة الخليل الفلسطينية (حبرون) التي تحمل اسمه إلى يومنا هذا، فلما وصلها تقول التوراة: إن أميرها أو ملكها الفلسطيني "أَبِا مَالِك" أَوْصَى جَمِيعَ الشَّعْبِ قَائِلاً: «الَّذِي يَمَسُّ هذَا الرَّجُلَ أَوِ امْرَأَتَهُ مَوْتًا يَمُوتُ ":العدد 7 من الإصحاح 26»"

لقد حماه الملك، كونه غريبا لاجئا فأجاره "أبو مالك" كما هي عادة العرب منذ آلاف السنين،

ومن النص أعلاه لا يستطيع اليهود إنكار وجود الفلسطينيين في هذه الأرض، بل وملكيتهم لها، فإبراهيم لم يأت على أرض خالية، بل جاء على شعب يعيش على أرضه، مكونا حضارة عريقة محكوم بنظام سياسي متين يقوم على القيم، والأخلاق الإنسانية، والتي تجلت بنظام عقوبة صارم لمن يعتدي على الغريب المستضعف،  فالذي يعتدي على إبراهيم في قانون الملك الحثي (موتا يموت).

لكن لا يمر سوى أعداد قليلة من نفس الإصحاح حتى ينسى الذين قاموا بتحريف الأعداد السابقة، فتفضحهم التوراة نفسها فنقرأ مرة أخرى بعد ادعائهم أن الله-تعالى- أعطى أرض كنعان  لإبراهيم، وأن هذه الأرض ليست أرضه، وهو ما زال غريبا فيها " وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة" ]الإصحاح 34:11 [

بل أكثر من ذلك، فالتوارة تثبت تحريفهم بالدليل القاطع، فتروي قصة وفاة " سارة" بعد سنوات من إقامة إبراهيم بين الفلسطينيين الذين أحسنوا مثواه، فيأتي للملك الفلسطيني ويقول: "أنا غريب ونزيل عندكم. أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي"، وهنا يعترف إبراهيم أنه لا يملك مترين مربعين أو مساحة قبر في أرض فلسطين ليدفن زوجته فيها. ]الإصحاح 23 العدد4[

هنا، يتمثل الكرم الفلسطيني بأجمل صوره، ولنا أن نفهم مصدر كرم أهل الخليل إلى يومنا هذا، يختار إبراهيم مغارة في بستان تسمى حسب النص "مغارة المكفيلة" ويعرض شراءها من صاحبها من بني حث، ويطلب وساطة  الملك في إقناع  المالك ببيعها له، فيقول في العدد 8 -15 :"والتمسوا لي من عفرون بن صوح "9:" أن يعطيني مغارة المكفيلة التي له، والتي هي في طرف حقله. بثمن كامل، يعطيني إياها في وسطكم ملك قبر". [1]

ويعرض إبراهيم دفع أربعمئة شيقل فضة على عفرون ثمن المغارة، فيرد عفرون في العدد 15 بالقول: "يا سيدي، اسمعني. أرض بأربعمئة شاقل فضة، ما هي بيني وبينك ؟ فادفن ميتك".

وهذا دليل أخر على زيف ادعائهم، فكيف يشتري إبراهيم أرضا هي له من الله؟!! وهو دليل ثابت إلى يومنا هذا، فإذا كانت أرض "يهودا والسامرة" لكم، لماذا تستميتون على شرائها، وتستخدمون كل أساليب التزوير والتلفيق لامتلاكها؟؟[2]

لم تقتصر عمليات الشراء على إبراهيم -عليه السلام-، بل إن حفيده يعقوب، بعد أن عاد من العراق موطنهم الأصلي تزوج من" لئيا" و"راحل" بنتي خاله، وأنجب منهما عشرة أولاد ليعود مرة أخرى لغربة جده، انظر "فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال... 18 ليجيء إلى إسحاق أبيه إلى أرض كنعان" ]الاصحاح 30 عدد 17[

وكمهاجر جديد مع قرابة خمسة عشر نفرا من زوجاته ونسائه الأربع،  ؟؟وربما ماشيته وجماله، فقد رأى أنه لا بد أن يمتلك مكانا يأويه وعائلته ، فيفاوض "بني حمور" "أبي شكيم" على البستان الذي تقع فيه مغارة "المكفيلة " نفسها والتي أصبحت مقبرة لأبيه "إسحاق" وأمه "رفقة"، وجده "إبراهيم" وجدته "سارة"
فهذا هو الإصحاح يؤرخ عملية البيع، بدقة فيقول: "وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بمئة قسيطة" ]الإصحاح 33 عدد 19[

مرة أخرى لم نجد يعقوب -عليه السلام -يجادل في ملكية الأرض وأنه من نسل إبراهيم وهي موعودة لهم، بل دفع ثمنها، وحتى ذلك اليوم وإلى يومنا هذا فإن إبراهيم وحفيده يعقوب لا يملكان في فلسطين سوى مغارة ثمنها أربعمئة شيقل كنعاني وهي عملة فلسطينية أصيلة، بالإضافة إلى قطعة أرض تحيط بتلك المغارة ثمنها مئة قسيطة فقط لا غير.[3]

لقد حاول الصهاينة تجنيد عدد من (الأغيار) لدعمهم فيما ذهبوا إليه من ادعاء باطل  في ملكية فلسطين، ففي القرن الماضي جندوا وزير خارجية بريطانيا بلفور ووعده المشؤوم، بمنح أرض فلسطين ليقيموا عليها وطنا قوميا لليهود، وجندوا في هذا القرن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليجدد هذا الوعد، فمنحهم القدس عاصمة لكيانهم الزائف، وحقهم في ضم مايرونه مناسباً من أراضي الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967، فإذا كان بلفور ومن بعده ترامب يعشقان الصهاينة إلى هذا الحد، لماذا لم يمنحا اليهود أرضا في بريطانيا، أو أمريكا المترامية الأطراف؛ليقيموا عليها دولتهم، وليطلقوا عليها ما يحلو لهم من الأسماء، أما فلسطين فلن تكون إلا فلسطين، وتزوير اسمها  وملكيتها لن يفلح أبدا، وهي باقية بقاء الدهر، وهم وزبانيتهم إلى زوال.

وهكذا،  وعلى قاعدة من فمك أدينك، أقول مطمئنا : لماذا قبلتم بتقسيم الحرم الإبراهيمي إذا كان لكم وحدكم وأنتم نسله الذي أعطاهم  هذه الأرض؟ الحقيقة التي لا تدع مجالا للشك، أنكم لستم سوى شذاذ آفاق، وليس لكم صلة، أو علاقة بإبراهيم –عليه السلام - ولا بنسله ، تهودتم في  القرن الثامن في بلاد الخزر، وجئتم غزاة على هذه الأرض، ولأنكم غرباء عنها حتى في لون البشرة ناهيك عن الثقافة والتراث، ستخرجون منها مدحورين كما كل الغزاة ولتبق فلسطين للفلسطينيين أرض كرم وجود وعطاء، باسطة ذراعيها لكل الأخيار والمؤمنين بقداستها، وصدق الله- تعالى- إذ قال: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران : 67-68]