عن هذه المصطلحات

2020-09-30 06:48:42

في السنوات الأخيرة، قامت الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة بتوجيه استدعاءات أمنية لعدد من الناشطين، سواء في مجالات المعارضة السياسية، أو ضمن مبادرات مكافحة الفساد، أو في إطار كتابة منشورات على «فيسبوك» تتعرض لشخصيات عامة، وهؤلاء يتم اعتقالهم والتحقيق معهم مطولاً، أحياناً لفترات تتجاوز الأسابيع، والتهمة غالباً تعريض الأمن القومي للخطر، أو إثارة نعرات طائفية، أو قدح مقامات عليا!

لا حاجة للتذكير بالحق الطبيعي والقانوني لكل مواطن بحرية التعبير، وأنّ هذا الحق يكفله القانون والدستور، والتأكيد أن هذه الحرية ليست منفلتة، ولا يجوز استخدامها لأغراض التشويه أو لتهديد السلم الأهلي. ما يهمني هنا مسألتان: مصطلح «مقامات عليا»، ومفهوم تهديد «السلم الأهلي»، أو «الأمن القومي».

من المفترض أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، وبالتالي تجاوزنا تلقائياً عصور العبودية والإقطاع، وتخلصنا من عقلية فرز المجتمع إلى فلاحين ونبلاء.. وتخطينا زمن ألقاب البيك والباشا، وصرنا جميعاً سواسية أمام القانون، في الحقوق والواجبات، بصفتنا الإنسانية أولاً، وبصفتنا مواطنين، نتمتع بكافة حقوق المواطَنة، التي أقرتها كل التشريعات الحديثة.

في الدول الحديثة والمحترمة لا يتمتع المسؤولون بأيّ امتيازات خارج القانون، وهذا ينطبق على رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، وأي موظف حكومي مهما علت منزلته، فالرئيس والوزير، والنائب، والقاضي، وقائد الجهاز الأمني، ورئيس البلدية.. كل واحد منهم مجرد موظف برتبة وظيفية معينة، أثناء العمل الرسمي يكون اسمه «السيد الرئيس»، أو «حضرة القاضي»، أو «السيد الوزير».. وخارج أوقات الدوام الرسمي يتصرف مثل أي مواطن عادي، يتسوق، ويركب «البسكليت»، وينتظر على الدور، ويقف في الباص إذا لم يجد مقعداً فارغاً، ولا أحد من المواطنين يعيره اهتماماً أكثر من اللازم، وغالباً ما يتم تجاهل وجوده، هذا إذا لم يتعرض للتوبيخ من المواطنين إذا لم تكن سمعته على ما يرام. في القانون، وفي ثقافة الشعب ليس من هؤلاء أحد حاصلاً على لقب «مقامات عليا».. وربما هذا المصطلح انقرض منذ زمن، وصار من مخلفات الماضي، وضمن تركته الثقيلة.

في بلادنا، نحن أصحاب المجد التليد، والإنجازات العظيمة، الأمر مختلف، لدينا فائض من الألقاب (صاحب الجلالة، فخامة الرئيس، دولة رئيس الحكومة، معالي الوزير، سعادة السفير، عطوفة الوكيل..) لا أعرف من منحهم هذه الألقاب؟ وبأيّ حق نالوها؟ وما الذي يميزهم عن سائر الناس؟ وهل مناداتهم بهذه المسميات التعبير الوحيد عن احترامهم وتقديرهم؟

أليس أصحاب المقامات العليا بشر مثلنا؟ حملتنا أمهاتنا تسعة أشهر وأرضعتنا حولاً، نعمل ونخطئ، نحسن ونسيء، فينا بذور الخير ونوازع الشر، ولنا شياطيننا التي توسوس لنا، نستجيب لها مرة، ونردها مرات؟ أم هم ملائكة وفوق البشر؟

لست ضد أيٍّ من هؤلاء بصفة شخصية، ولا بصفة وظيفية.. وأدرك تماماً أن منهم أصحاب كفاءات، ومنهم أياديهم نظيفة، وبعضهم لديه منجزات جيدة، وآخرون يتفانون في عملهم. مشكلتي مع الألقاب، وطريقة التعظيم غير المبررة، وفي النظر إليهم بوصفهم أناساً فوق العادة.. ألا يمكن التعبير عن محبتهم وتبجيلهم بطرق أكثر إنسانية، وأكثر حضارية؟

هل تذكرون «عيدي أمين»، «القذافي»، «تشاوسيسكو»، «صدام حسين».. كان يسبق اسم كل منهم ألقاب تملأ سطرين.. هل تذكرون كيف كانت نهاياتهم؟

بالعودة لأصحاب المقامات الرفيعة.. هل الملك، ورئيس الدولة، ورئيس الحكومة هم فقط أصحاب المقامات العليا؟ هل الوزير والمحافظ والوكيل والمدير العام من ضمنهم؟ وهل المقامات العليا تشمل زوجاتهم وأبناءهم وأقاربهم؟ وهل مدير مركز الشرطة، ومدير الجمارك، ومدير الأحوال المدنية ورئيس الجامعة، ورئيس القسم منهم، أم هم أقل شأناً، وبالتالي يمكن نقدهم ومحاسبتهم!

هل ثمة فرق بين التعرض لمواقفهم وانتقاد قراراتهم وانتقاد سلوكهم الشخصي؟ هل من حدود فاصلة تجعل النقد يتحول فجأة إلى قدح مقامات عليا؟

وكيف يكون نقد المسؤولين من الدرجات الوظيفية الأقل نقداً مقبولاً، لا يرقى للقدح، ثم يصبح نفس النقد إذا وجّه لشخص آخر له سلطة أكبر أو جاه ومنصب أرفع يصبح جريمة «قدح» و»إطالة لسان» يحال مرتكبها إلى القضاء؟ هل التشريعات المتصلة بما يُسمى مقامات عليا وقدح هي تشريعات منسجمة مع العصر، وتتفق مع قيم الحرية والمساواة والعدالة التي يقرها القانون والدستور؟

فيما يخص «السلم الأهلي»، و»الأمن القومي».. في السنوات الأخيرة، تم قمع عشرات التظاهرات السلمية في شوارع ومدن الضفة والقطاع، قُمعت بطريقة قاسية، ومهينة، وباستخدام مفرط للقوة، تحت ذريعة تهديد السلم الأهلي، والمسّ بالأمن القومي، أو العمل لصالح أجندات أجنبية، أو عرقلة السير، وتعطيل مرافق الحياة.. وهذه حجة الحكومات القمعية، حيث تتذرع بها للتغطية على عجزها، أو إخفاقها، أو للسيطرة على المجتمع والتحكم بالجماهير وتخويفهم، لمنعهم من المطالبة بحقوقهم، والتي غالباً ما تكون مطالب لتحسين حياتهم اليومية، أو لتكميم أفواههم ومنعهم من التعبير والمعارضة.

في إسرائيل مثلاً، في الأشهر السابقة، خرج عشرات الآلاف من الإسرائيليين للمطالبة بإسقاط «نتنياهو»، حتى أنهم حاصروا المطار، وحاصروا منزله، وقيّدوا حركته.. ومع ذلك لم توجه لهم تهم من هذا النوع، ولم يتعرض أي متظاهر للتنكيل! في أميركا وأوروبا عامة يخرج المتظاهرون ويتحدث المحللون والمراقبون والمعارضون.. ينتقدون ويشتمون ويسخرون من الرئيس ومن الحكومة، ولا توجه لهم تهمة قدح مقامات عليا! ولا تتزعزع أركان الدولة والمجتمع.

يا أصحاب المقامات العليا: ليس السلم الأهلي من يتعرض للخطر، ولا الأمن القومي، ولا الوحدة الوطنية.. في الحقيقة، كراسيكم، وامتيازاتكم، وطموحاتكم الشخصية، هي من يتعرض للخطر.
بعبارة أخرى: التظاهرات السلمية لا تعرقل حركة السير، بل تعرقل مشاريعكم الخاصة.

حسب التقرير السنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، احتفظت السلطة الوطنية بمركزها الذي كانت عليه العام الماضي 2019، بين الدول التي تنتهك حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير؛ حيث حطّت في المرتبة 137 من بين 180 دولة. سبقتها الفلبين التي حازت على مرتبة 136 في انتهاكها لحرية الصحافة. لكنها سبقت جنوب السودان الذي جاء في المركز 138!!