عن ماكرون، وأزمة الإسلام

2020-10-14 07:15:37

قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن "الإسلام يعيش في أزمة"، وبهذا التصريح أثار موجة غضب عارمة في العالم الإسلامي.. وللأسف لم يرتقِ أي رد فعل إسلامي إلى المستوى المطلوب، فجاء رد البعض سطحياً، فمثلاً، قال بعضهم إنّ اعتناق "صوفي بترونين" للإسلام هو أقوى رد على ماكرون، وبترونين رهينة فرنسية مسنّة كانت مختطفة في مالي لأربع سنوات، وبعد إطلاق سراحها استقبلها ماكرون، فصُدم لما رآها وتأكد أنها قد اعتنقت الإسلام، فخرج من المطار دون إعطاء أي تعقيب صحافي.

كيف عرفوا أن ماكرون مصدوم ومستاء؟ وأنه لم يكن يعلم بإسلام بترونين؟ هل تعابير وجهه ولغة جسده كافية لمثل هكذا استنتاج؟ هل مجرد امتناعه عن الإدلاء بتصريح دليل على ما في قلبه؟ هل صدمته باعتناق مواطنة فرنسية للإسلام أهم من فرحته بتحريرها؟ سيقول البعض إن الصحافة الفرنسية هاجمت الرهينة.. هل موقف صحافي واحد (أو عشرة) يمثل موقف الشعب والحكومة؟ مهما كانت الإجابات، فليس فيها أي رد حقيقي وجوهري على تصريحات ماكرون.

آخرون انتقدوا خطاب ماكرون لأنه ركز على المسلمين، ولم يأت على ذِكر اليهود الفرنسيين، الذين يؤمنون بتفوق اليهود، ويمارسون أشكالا عديدة من العنصرية ويحرضون على العنف.. وهذا صحيح، لكن ما علاقته بصلب الموضوع؟ وهل ممارسات وأفكار اليهود تبرر مثلها للمسلمين؟

آخرون قالوا "إن فرنسا والنظم الرأسمالية هي من تعيش في أزمة".. وهذا صحيح أيضا.. ولكنه ليس ردا مناسبا، ولا علاقة له بالموضوع.. بل هو هروب آخر من الإجابة.

لا ريب أن الغرب والعالم الرأسمالي عموما يعيش في أزمة، وهي أزمة بنيوية مستفحلة تنبع من صلب فكره، وهو متورط بماضٍ استعماري قبيح ومخجل.. ولا شك أن فرنسا نفسها تمر في أزمات، لكن الفرق أن المفكرين والفلاسفة والباحثين ومراكز الدراسات هناك تعترف بوجود هذه الأزمات، وأيضا تقر بها الحركة الأدبية والفنية والسينمائية، وطالما تناولتها في أعمالها.. والمجتمعات الغربية (وخاصة الطبقات الوسطى والمثقفين) يقرون بها كذلك، ويعملون على حلها وتغييرها.. ينجحون مرة، ويفشلون مرة، لكنهم يظلون في حِراك دائم، وتطور مستمر..

لن نناقش تفاصيل خطاب ماكرون، فتلك مهمة مفكري ونشطاء الجالية المسلمة في أوروبا، وهم الأقدر والأعلم.. ما يهمنا هنا عبارة "الإسلام يعيش في أزمة".

ليس من السهل وصف دين بالمأزوم، فذلك يؤذي أتباعه، والأسهل وصف ممارسات أتباع الدين، وانتقادها إذا لزم الأمر.. فمن الممكن أن يكون أتباع الدين هم المأزومين. وهذا يقودنا إلى السؤال المعقد والحساس: هل الأزمة في الإسلام نفسه، أم في المسلمين؟

غالبا ستكون الإجابة بأن الأزمة في المسلمين، وأنّ الإسلام دين الله الحق، الذي لا يأتيه الباطل، وهو صالح لكل الأمم، وفي كافة الأماكن والأزمنة، ولا يجوز انتقاده، أو الدعوة لتطويره.. تلك إجابة مريحة في ظاهرها، لكنها تخلق مشكلة عويصة؛ فإذا كان الإسلام كذلك، فلماذا أخفق المسلمون في تطبيقه؟ ولماذا كل النماذج التي قدموها في الحكم والحياة الاجتماعية كانت بائسة، أنتجت كل هذا الواقع المرير والمهين، بحيث صار المسلمون في الحضيض، وفي أسفل السلم، مقارنة بغيرهم من شعوب الأرض؟

بالنسبة لي لا أشكك بأنّ الإسلام دين الله الحق، وهو في جوهره وروحه ونظامه يجلب الخير والسعادة والعزة للمسلمين، ولكافة البشر.

إذا كانت المشكلة في المسلمين، فهذا توصيف عنصري، يتلاقى مع أطروحات اليمين المتطرف الذين يتهمهم بعدم القدرة على التطور والتكيف مع القيم الحداثية.. فأين المشكلة إذاً؟

بداية، لا بد من الاعتراف بوجود أزمة، بدليل واقعنا المرير، والذي لا يحتاج إلى شرح، ونحن المسلمين مَن خلق هذه الأزمة، ونتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى (دون أن نعفي الغرب الاستعماري) وعناوين وأسباب هذه الأزمة تكمن في الآتي:

طريقة تعريفنا للإسلام بأنه دين وهوية وجنسية.. واعتقادنا أن الفلبيني والصيني والإيراني والتركي والأردني والمغربي والأميركي والهولندي والأوغندي.. كل هؤلاء يشكلون أمة واحدة لمجرد أنهم مسلمون.. وهذا توصيف غير علمي لمفهوم الأمة، ويكذّبه الواقع، فبناء عليه سيكون المسيحيون في عموم الأرض أمة واحدة، وهذا الطرح يتلاقى مع الدعوة الصهيونية التي تجعل من الدين والقومية شيئاً واحداً، لتبرير مقولة الدولة اليهودية.  

اعتقادنا أن الإسلام معطى مطلق، بصيغة واحدة، وقالب جامد، نحمله من جيل لآخر، دون تجديد، دون تطوير، دون مراعاة للظروف الموضوعية، وبنزعه عن سياقه التاريخي وبعده الاجتماعي السوسيولوجي، وبذلك أفقدناه طابعه المرن، وحرمانه سمة النمو والتطور والتكيف. الإسلام يتسع للجميع، لكن كل جماعة ادعت احتكاره وتمثيله الحصري.

الفقهاء غالباً، هم الذين شرحوا للناس دينهم، وهم لا يؤمنون بالتجديد، ولا يقبلون مراجعة منظومتهم الفقهية، وهم عادة يهربون من الحاضر بتقديس الماضي، ولا يفكرون في المستقبل. وبذلك عمقوا الأزمة، لأن العالم يسير إلى الأمام، وفي حالة تغير مستمر، والتاريخ لا يتوقف عند أي عصر.

فهمُنا الحالي للإسلام هو نتاج فهم المسلمين الأوائل له، والتي صاغوها بمقولات فقهية وفكر ديني سلفي كان نتاج البيئة والحدود المعرفية التي عاشوا فيها، وبسبب عدم التجديد وضعف الرؤى المستقبلية، حوّل الفقهاء الإسلام إلى منظومة فقهية وتدين شكلي على حساب البعد الفكري والإبداعي.

وبتغييب البعد الفكري غاب المفكرون والمجددون (حدث هذا بتحالف الفقهاء مع السلطة) وبسبب سطوة الفقه على الفكر ساد نمط محدد للإسلام اتبعه عامة الناس. وبذلك انفصل المسلمون عن الواقع العالمي، وتخلفوا عنه.

التأثير بين الإسلام والمسلمين متبادل، على مدى قرون طويلة ظلت السلطة الدينية هي التي تشكل المسلمين، وإذا أردنا حل الأزمة، يجب الاعتراف بوجودها بدايةً، ثم صياغة فهم إسلامي جديد حضاري متنور، متصالح مع العصر؛ فالمسلمون هم من يشكلون الإسلام حسب فهمهم له، وحسب مستواهم الحضاري.