مفاوضات الحدود اللبنانية الإسرائيلية ...هل هي مقدمة لما هو أكبر؟

2020-10-15 05:19:22

التأم أمس، أول لقاء تفاوضي بين لبنان وإسرائيل حول الحدود البحرية المتنازع عليها بين الطرفين. وعُقد الاجتماع في مقر القوات الدولية التابع للأمم المتحدة، في الناقورة بجنوب لبنان، بوساطة أميركية وبرعاية الأمم المتحدة. وكان نبيه برى رئيس مجلس النواب اللبناني قد أعلن في وقت سابق مطلع هذا الشهر عن التوصل إلى اتفاق إطار يحدد مسار مفاوضات غير مباشرة لترسيم الحدود البرية والبحرية المتنازع عليها بين البلدين.


وجاء هذا التطور الهام، في أعقاب انفجار مرفأ بيروت الذي صدع أرجاء لبنان، بعد أكثر من عشر سنوات من الرفض اللبناني للانخراط في مفاوضات حول حدودها البحرية، وبعد أكثر من ثلاث سنوات من المساعي الأميركية والتوسط لجمع الطرفين للتفاوض حولها. إذ أكدت إسرائيل أن هناك مرونة من قبل لبنان لخوض هذه المفاوضات، وباتت أكثر استعداداً لخوضها هذه المرة من أي وقت مضى. واعتبر بري أن هذه المفاوضات من شأنها أن تفضي إلى سداد ديون لبنان كونها ستسمح له باستثمار حقول النفط والغاز في البحر المتوسط.


مثّل لبنان في المفاوضات وفدٌ يضم عميدين من الجيش، إضافة إلى خبيرين في الحدود والبترول، اذ أصر لبنان على أن لا تعكس تشكيلة وفده المفاوض مستوى سياسياً في اطار مفاوضات غير مباشرة، تأكيداً على استمرار عدم وجود علاقات سياسية أو دبلوماسية بين البلدين. الا أن إسرائيل تصر على وصف المفاوضات بالمباشرة، بما يوحي بتغير طبيعة العلاقات بين البلدين، ويحتمل أن يكون ذلك ما تسعى اليه إسرائيل بالفعل. وهناك عدد من التغيرات في موقف لبنان، تعتبر المدخل الذي مكنه من الانخراط في هذه المفاوضات، بعد أن كان المعطل لالتئامها في السابق، وقد تعد أيضاً مقدمة لتبدل سياسي عميق في المستقبل.


وكان نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني وكبير مفاوضي الحدود أعلن عن تخليه عن ملف هذه المفاوضات لتصبح تحت إشراف الرئيس ميشيل عون. وتعد مسؤولية المفاوضات الحدودية من صميم مهام رئيس البرلمان وفق دستور البلاد. وكانت الولايات المتحدة قد بينت في أكثر من مناسبة عدم رضاها عن إشراف بري على ملف المفاوضات الحدودية. ومن المعروف قرب بري وتحالفه مع حزب الله، الذي تعتبره الولايات المتحدة منظمة إرهابية، وتفرض حصاراً عليه وعلى كل من يتعامل معه.


وجاء تصريح بري بأن لبنان وإسرائيل قد طلبتا من الولايات المتحدة أن تكون الوسيط في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، ليعكس تغيراً واضحاً قد طرأ على موقف بيروت تجاه معطيات هذه المفاوضات. اذ كان عدم قبول لبنان بالوساطة الأميركية لمفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهي الوساطة التي أصرت عليها إسرائيل، السبب المباشر في عدم موافقة لبنان على عقدها طوال العقد الماضي. ورغم قبول لبنان في بداية الترتيبات لعقد تلك المفاوضات بوساطة أميركية أممية، إلا أن إصرار إسرائيل على وساطة أميركية ورعاية أممية هو ما تم اعتماده في النهاية. إن عدم وجود وساطة أممية بين الطرفين الإسرائيلي واللبناني، كما هو معمول به خلال مفاوضات الطرفين الروتينية، منذ عام ٢٠٠٧، والقائمة لمتابعة تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١، سيغير تدريجياً من طبيعة هذه المفاوضات إلى الشكل شبه المباشر في ظل الوساطة الأميركية، وهو ما تريده إسرائيل.


كان الجانب اللبناني قد عبر عن رغبته في عدم فصل مسارَي التفاوض حول الحدود البحرية والبرية، إلا أن ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي أكد أن هناك مسارين للتفاوض حول ترسيم الحدود، أحدهما حول البرية استناداً الى قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١ لعام ٢٠٠٦، والآخر حول البحرية، مؤكداً عدم وجود ربط ملزم بينهما. وتعد حاجة لبنان جامحة للوصول إلى حل يرسم حدوده البحرية، ويمكنه من استغلال موارده المائية المتنازع عليه مع إسرائيل من الغاز والنفط، بما يساعده في ظل الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة التي تتعرض لها البلاد اليوم. فتصريحات إسرائيل المتفائلة تجاه إمكانية الوصول لاتفاق قريب حول ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، كما قد يكون مقدمة لفتح أبواب تفاوضية أوسع.


ويتعرض لبنان لضغوط سياسية واقتصادية كبيرة تفاقمت بعنف في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، إذ وصلت ديون البلاد إلى أكثر من ١٠٠ مليار دولار، ما اضطره للإعلان عن عجزه عن تسديد فوائدها. وكانت الأحداث السياسية في لبنان قد تطورت دراماتيكياً بعد انفجار المرفأ، اذ اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار لبنان مرتين بعد الانفجار، أن تشكيل حكومة لتنفيذ خطة الإصلاح التي عرضها يشكل الأساس الذي سيسمح بوصول المساعدات الدولية التي اتفق عليها في مؤتمر المانحين الذي استضافته باريس في شهر آب الماضي. وهدد ماكرون بعدم إمكانية وصول تلك المساعدات اللازمة لإعادة إعمار البلاد وإمكانية فرض عقوبات عليها في حال فشل اللبنانيين في تشكيل الحكومة وتنفيذ الإصلاح، وقد أعطى سقفاً زمنياً لإنجاز ذلك ينتهي أواخر الشهر الجاري. ولم تنجح لبنان حتى الآن في تشكيل الحكومة، إذ اعتذر مصطفى أديب المكلف عن تشكيلها. ويعتبر «الفيتو» الذي تضعه الولايات المتحدة على أي مشاركة سياسية رسمية لحزب الله سبباً رئيساً في احتدام الخلافات حول تشكيل الحكومة. كما يحمل خصوم حزب الله في لبنان الحزب مسؤولية أزمة وعزلة البلاد الحالية. وقد يكون الحزب اعتبر أن انخراط لبنان في تلك المفاوضات الحدودية والقبول بمعطياتها الجديدة يمكن أن يفكك الحصار الواقع عليه وعلى البلاد.


من الواضح أن هذه المفاوضات ستكون في مصلحة اسرائيل لسببين، الأول لأنها ستفتح باب المفاوضات السياسية مع لبنان، في ظل ضعفه وحاجته، والثاني لأن إسرائيل تتحكم في مصير هذه المفاوضات، كما تحكمت في مصير مفاوضات سابقة، وفي ظل عدم امتلاك لبنان لأي خيارات أخرى تحسم مصير حدوده. وتضطر لبنان للذهاب الى خيار التفاوض مع إسرائيل على حدوده البحرية كخيار وحيد، بسبب رفض إسرائيل الذهاب للتحكيم الدولي أو للتحكيم الخاص أو حتى لمحكمة العدل الدولية، والتي تشترط جميعاً وحسب القانون موافقة إسرائيل للنظر في الخلاف بينهما. وتعكس موافقة حزب الله الضمنية على انخراط لبنان في عملية تفاوضية لترسيم حدوده البحرية، وضمن الشروط سابقة الذكر، مدى التأثر الذي لحق بقوى محور الممانعة، والتي على ما يبدو باتت تفضل الانحناء أمام العاصفة بدل المواجهة. فإيران في مناسبات عديدة تدخلت لمساعدة حليفها حزب الله، إلا أنه على ما يبدو أن العجز سيد الموقف.


يبدو جلياً أن لبنان قبل الذهاب لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية في هذا الوقت بالذات تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها البلاد. كما أنه من الممكن أن تكون تلك المفاوضات مقدمة لاتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل ليصبح لبنان ورقة ضغط إضافية ضد الفلسطينيين في معادلة صراعهم مع إسرائيل. فعندما تحدث نبيه بري عن مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل لم يذكر فلسطين المحتلة كما درج في السابق. كما أن إسرائيل لم تخفِ غايتها بالوصول لاتفاق سلام مع لبنان عام ١٩٩٩، في عهد إيهود باراك رئيس الوزراء في حينه. وتسعى إسرائيل اليوم لحصد اكبر عدد ممكن من الدول العربية المطبعة معها، لتغيير معادلتي الصراع في المنطقة ومع الفلسطينيين. فهل تستغل إسرائيل حاجة لبنان وضعف مكانة حزب الله وتجعل من تلك المفاوضات مقدمة لاتفاق سلام مع لبنان؟