أين تذهب هذا المساء؟

2021-07-19 07:28:06

لا بد أن أبناء جيلي يتذكرون هذه الفقرة جيداً؛ إذ كانت تأتي في منتصف وصلة الإعلانات في التلفزيون المصري، إيذاناً بإعلانات ما تعرض دور السينما أو المسارح. «أين تذهب هذا المساء؟» كانت جزءاً أساسياً من تلك الإعلانات التي تقطع علينا لذة متابعة مسلسل الظهر أو المساء، وعلى ما في هذا من ألم، إلا أن تلك الوصلة الصغيرة كان تضعنا في قلب ما يعرض في دور السينما والمسارح. كان في الأمر بعض المتعة. وبالطبع فإن تلك الإعلانات لا بد أن تضم مشاهد مضحكة من المسرحيات أو مقاطع مثيرة من الأفلام. وفي كل الأحوال كانت ترشدنا إلى ما يجري حولنا في عالم الفن.
عموماً لم يكن ثمة الكثير الذي يمكن أن نشاهده في نهاية السبعينيات وطوال الثمانينيات في القطاع. لم يكن إلا تلفزيون الاحتلال بقناتَيه الأولى والثانية والتلفزيون المصري القناة الأولى والقناة الثانية المخصصة للمسلسلات والأفلام الأجنبية، وفي الصيف يمكن للاقط الهوائي أن يأتي لنا بالتلفزيون الأردني، وفي الليالي الأكثر صفاء وتلك نادرة يمكن أن نشاهد التلفزيون السوري مشوشاً. وعليه لم يكن أمامنا إلا أن نتابع بشغف كل ما يعرض على التلفاز خاصة المصري لأن تلفاز الاحتلال لم يكن يعرض الفقرات العربية إلا ساعتين في المساء بجانب فيلم الجمعة الشهير على الخامسة والنصف. لذا كانت تفاصيل تلك الإعلانات تشكل جزءاً من مشاهداتنا الأثيرة التي تتحول مع الزمن إلى جزء من حديثنا عما نعرف من أخبار الفن.
ومع هذا لم تكن تلك الإعلانات موجهة لنا، فهي تتحدث للمواطن المصري أين يمكن له أن يذهب هذا المساء، وهي تشكل خارطة لمواعيد يمكن له أن يضربها أو لأوقات يخطط أين يقضيها. وحين تكبر وتذهب للقاهرة أو إلى عواصم أخرى تدرك كيف تكون مثل تلك الإعلانات جزءاً من حياة الناس. وكنا نكتفي بنقاشاتنا في البيت حول تلك الأفلام أو المسرحيات التي يمكن لنا أن نشاهدها على التلفاز بعد سنوات. مثلاً مسرحية «شاهد مشافش حاجة» بتنا نحفظ الكثير من مشاهدها من كثرة ما شاهدنا إعلاناتها ضمن وصلة «أين تذهب هذا المساء». بالطبع مهم التنويه أننا نحفظ مع الوقت أسماء مخرجي الإعلانات مثل طارق العريان وشركات الإعلانات أيضاً.
كانت ثمة حياة فنية متواضعة حولنا، لكنها لم تكن جزءاً من طقوس الحياة خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الأولى مع نهاية الثمانينيات. كانت ثمة دور سينما وكنت طفلاً أذهب إليها وكانت وقتها زمن الأفلام الهندية تحديداً أفلام «أميتاب بتشان». في المواسم نذهب للسينما. كانت سينما الجلاء وسينما عامر والسامر والنصر. دور السينما الأربع علامات فارقة وبارزة في مدينة غزة. كانت المسافة بينها غير بعيدة تكاد تصل إليها متحركاً من الواحدة للأخرى مشياً على الأقدام. ورغم كل الظروف كان يمكن الذهاب للسينما والتمتع بالأفلام الهندية والمصرية ونادراً الأجنبية.
أما المسرح فلم يكن شائعاً. صحيح أن بعض الفنانين بدؤوا مبكراً في الثمانينيات تقديم بعض العروض على نطاق ضيق في غزة لكن هذا لم يكن جزءاً من الوعي العام. ربما المسرح المدرسي على ضعفه هو ما كان يمكن له أن يترك شيئاً عن المسرح في الذاكرة. لكنني شخصياً لا أذكر أنني شاهدت مسرحية مدرسية. كانت أوقاتاً عصيبة. حين تكبر تدرك أن الأمور تتراجع. وأن كهلاً في المخيم عاش صباه في يافا يمكن له أن يحدثك عن تجاربه في السينما أو المسرح قبل النكبة فيما أنت تكبر ولا تحمل في وعيك أو ذاكراتك أي إشارة عميقة عن المسرح.
عن التراجع الذي حدث، تخيلوا أن غزة كان فيها اتحاد دور سينما في الستينيات والخمسينيات. اتحاد وليس جمعية. فيما كنت أراجع بعض الوثائق التي حصلت عليها وزارة الثقافة مؤخراً وهي ستشكل نواة أرشيف السينما الفلسطينية الذي ستطلقه الوزارة لاحقاً، وجدت مراسلات باسم اتحاد دور السينما في غزة مع شركات توزيع عربية خاصة المصرية. الآن لا توجد دار سينما واحدة في غزة. ما زال مبنى سينما النصر في شارع عمر المختار يبهر المارة برونق عماره الذي يشبه إلى حد كبير دور السينما في القاهرة في وسط البلد أو دور السينما في المدن الإيطالية. ذات النمط المعماري المرتفع والواجهة الدائرية التي تعرض أفيشات الأفلام.
وبالعودة إلى الماضي وفيما كنت أتصفح الصحف الفلسطينية التي كانت تصدر قبل النكبة، كانت ثمة زاوية ثابتة بصحيفة الدفاع في الصفحة الثالثة تشير إلى ما تعرضه دور السينما في يافا والقدس وحيفا ومرات في نابلس وغيرها. تشبه هذه الزاوية «أين تذهب هذا المساء»، طبعاً هناك دعايات منفصلة لكل فيلم في الصفحات الأخرى، لكن هذه الزاوية تشكل تخطيطاً مسبقاً لمساءات المواطنين. الآن لا الصحف ولا المواقع تعرض لنا ما يمكن أن نفعله. لأن دور السينما باتت شبه معدومة والمسارح باستثناء بعضها في المراكز أيضاً تكاد تكون معدومة، وهذا يثير سؤالاً كبيراً حول ما نفعله من أجل استعادة حياة ثقافية ومعرفية حقيقة وليست مجدر نشاطات و»فزعات» وتسلية غير مستدامة.  
لا نذهب إلى أي مكان هذا المساء. سؤال آخر يجب الالتفات إليه في ظل هذا النقاش حول الإنترنت والـ»يوتيوب» ووسائط التواصل وما توفره من متع مختلفة. لكن حتى في تلك البلدان التي كانت السينما فيها قوية ما زالت قوية وما زال الناس يذهبون ليشاهدوا الأفلام والمسرح. بالضبط كما لم تلغ المسلسلات والراديو الكتب وظلت الحاجة لقراءة الرواية أساسية، كذلك فإن وجود دور السينما والمسارح أساسياً، وحتى نذهب إليها لا بد من وجودها، فلا تذهب إلى أي مكان هذا المساء.