القلعة الأميركية مهترئة من الداخل

2022-05-27 07:54:21

صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأقوى في العالم منذ نهاية الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية على الاشتراكية مع تفكك الاتحاد السوفييتي العام 1991، لكن هذه الدولة القوية تمر بنكسات خارجية وداخلية تهدد تربعها على عرش النظام الدولي.

الحديث هنا مرتبط بالوضع الداخلي الأميركي الذي يعاني كثيراً خصوصاً في السنوات الأخيرة من جرائم عنصرية بين البيض والسود وأخرى تتعلق بالقتل الناتج عن استخدام الأسلحة النارية، واعتداءات كثيرة منبتها آفة المخدرات وإدمان الكحول وتفكك النسيج الاجتماعي للأسر الأميركية.

لا يكاد يمر يوم في تاريخ البلاد إلا وتنتشر على محطات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي أخبار تتناول جرائم تهز المجتمع، إما أن تحمل طابعاً سياسياً أو دينياً أو تمييزيا بين العروق والأجناس، أو أن أصحابها ليست لديهم أي دوافع أو ميول إجرامية، اللهم أنهم تعبوا من الحياة وبحثوا عن خواتيم بطرق غير تقليدية.

السبب الرئيس وراء هذه الأنواع من الجرائم، هو الحق الذي كفله الدستور الأميركي لمواطنيه بأن يمتلكوا السلاح منذ العام 1787، ومن السهل جداً جداً على أي مواطن شراء مسدس أو بندقية من السوق وحتى عبر المواقع الإلكترونية.

مجزرة تكساس التي حصلت مؤخراً وراح ضحيتها 19 طفلاً ومن البالغين في مدرسة ابتدائية، ارتكبها مراهق يبلغ من العمر 18 عاماً وليس لديه أي سوابق جنائية أو سجل للأمراض النفسية، والطامة الكبرى أنه قبل تنفيذ العملية اشترى بندقيتين عبر «الانترنت».

حين يسمح الدستور بحيازة الأسلحة الخفيفة اليدوية والأتوماتيكية لمن عمرهم 18 عاماً وما فوق، بالتأكيد ستكون النتائج كارثية، والإحصائيات خير دليل على ذلك، حيث شهدت الولايات المتحدة في العام 2020 حوالى 19350 جريمة قتل بسلاح ناري، أي ما يزيد على 35% قياساً بالعام 2019، حسب تقديرات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).

بسبب سهولة حيازة وحمل السلاح، يعتبر الشعب الأميركي أكثر شعوب العالم امتلاكاً للأسلحة الشخصية بمعدل 120 بندقية لكل 100 شخص، حسب مسح الأسلحة الصغيرة (SAS) ومقره في سويسرا.

في السنوات العشرين الأخيرة، صنّعت الولايات المتحدة أكثر من 139 مليون قطعة سلاح عرضت للبيع، وفي العام 2020 وحده بلغ إنتاج الأسلحة النارية التجارية 11.3 مليون قطعة، وفقاً لتقرير نشرته وزارة العدل الأميركية العام 2021.

كذلك ارتفع عدد الشركات المصنعة للأسلحة النارية من 2222 العام 2000 إلى حوالى 16936 شركة العام 2020 حسب نفس التقرير، ورغم إجراءات الفحص الأمني المسبق وأهلية حمل السلاح، إلا أن أسلحة كثيرة وتقدر بالآلاف لم يجر تسجيلها ولا حتى ترخيصها ووقعت في أيدي المراهقين والمدمنين وأصحاب السوابق والخلفيات الأمنية والجنائية.

سوق السلاح الأميركي كبير جداً غير مراقب تماماً، وثمة ما تسمى «الأسلحة الشبحية» وفق التقرير الوزاري سالف الذكر، حيث لا تخضع هذه النوعية من الأسلحة الفردية لأرقام تسلسلية يمكن تتبعها فيها، ولا ترخص بحكم أنها تباع قطعاً مجزأة وليست كاملة.

في العام الماضي وحده صادرت الشرطة الأميركية 19344 قطعة سلاح «شبحي» مقابل 1758 قطعة العام 2016، وهذا الرقم يعكس الرغبة والزيادة المطردة للحصول على السلاح الفردي تحت دوافع كثيرة من بينها حماية الأسرة والممتلكات والحماية الشخصية من الجرائم والاعتداءات الفردية والجماعية وأعمال الشغب.

وعلى الرغم من تنامي الدعوات بشأن تنظيم حيازة الأسلحة ومراقبتها وتعطيل حملها بهذه السهولة، إلا أنه لا يحصل شيء في المقابل، وتبوء كل محاولات تنظيم بيع السلاح الفردي بالفشل، لأسباب عديدة مرتبطة بهوامير بيع الأسلحة وصانع القرار.

المشكلة أن الكثير من تجار الأسلحة يُموّلون حملات السياسيين خصوصاً من أعضاء الحزب الجمهوري الذي يقف حجر عثرة أمام فرض رقابة على سوق السلاح الداخلي. كذلك هناك قناعة لدى شريحة من الرأي العام أن حيازة السلاح تأتي ضمن الحقوق المكفولة للمواطن الأميركي في الدستور، وتعديله قد يعني تجاوزاً على حقوق وحريات الناس.

ومع أن الجرائم الأخيرة مفزعة ومقلقة بالنسبة للجمهور وصانع القرار، غير أنه يجري التعامل مع هذه الموضوعات بوقتها، دون معالجات جذرية وفقط تقديم حلول تسكينية لإسكات الرأي العام ودفعه للاهتمام بقضايا أخرى غير جرائم القتل المرتبطة بحيازة الأسلحة.

حينما يتحالف رأس المال مع السياسة تكون النتيجة مصلحة الطرفين على مصلحة الشعب، ولذلك مهما دعا الرئيس بايدن إلى محاربة «لوبيات» السلاح والوقوف في وجهها، لن يتمكن من إجراء تعديلات على قوانين حيازة السلاح دون موافقة الحزب الجمهوري وتضافر كافة المؤسسات، والأهم موافقة الرأي العام.

ربما يحتاج هذا الموضوع إلى سنوات حتى يعي المواطن الأميركي أن انتشار السلاح وتفشيه في المجتمع هو ظاهرة غير صحية أبداً، ودليل على ارتفاع معدلات الجريمة واستسهال القتل بدوافع ودون دوافع. وحتى ذلك الوقت تهبط البلاد شيئاً فشيئاً من أعلى برجها العاجي.