جبهات الموت في سياسة بايدن

2022-10-02 12:20:17

عودنا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الإثارة الشبه يومية من خلال تغريداته البعيدة عن نصوص الدبلوماسية، والتي يعبر فيها عن رأي رجل الأعمال الأرستقراطي أكثر من رجل السياسة ورئيس أكبر دولة في العالم، ونجح ترامب في أن يكون دائما في عناوين الأخبار حتى لو كان ذلك على حساب حلفاءه، فلم يعر اهتماماً لحلفائه الأوروبيين عندما وجه انتقاداتٍ لاذعةٍ لألمانيا وفرنسا وإلى الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً، عندما كتب على تويتر عام 2018 أن إيمانويل ماكرون يقترح إنشاء جيش خاص لحماية أوروبا من الولايات المتحدة والصين وروسيا لكن الأمر يتعلق بألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية وكان العالم يتابع تغريدات ترامب ويتفاعل معها وكثيراً ما لا يأخذها على محمل الجد فالرجل معروف لدى الخصوم و الأصدقاء بمزاجه المتقلب وغطرسته العالية.

و بمجيء جو بايدن لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية تنفس العالم الصعداء وتوقع سياسة معتدلة و متوازنة على غرار ما حصل خلال فترات الرؤساء الديمقراطيين، ورغم تقدمه في السن وعثراته السياسية انتظر العالم تغيراً في السياسة الأمريكية بما يضمن الأمن والسلام العالميين، غير أن ما يحدث الآن على الساحة الدولية لا يبشر بالخير بل أكثر من ذلك أصبحت الدول الكبرى وتحديدا الأوروبية منها تتخوف من مستقبل قريب قاتم لا تستبعد فيه سيناريوهات الحرب العالمية والأزمات السياسية والاقتصادية والمجاعة وأعمال التخريب والهجمات الإلكترونية حتى أن أولويات الدول الأقوى لم تعد مشاريع تحسين التعليم وتطوير البحث العلمي ولا تحسين القطاع الصحي ولا البنية التحتية، بل أصبحت أولوية الحكومات توفير الطاقة للمواطنين والحفاظ على قدرتهم الشرائية وتوفير الغذاء مع رصد ميزانيات ضخمة للسلاح والعتاد الحربي.

الهجوم الروسي على أوكرانيا كان واضحا في القراءات الأوروبية، وبدت أوروبا وكأنها تجر إلى مستنقع الحرب بإخراج أمريكي.

لم تنجح الدول الأوروبية قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في تبديد مخاوف موسكو، ولم تقدم النصيحة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الذي كان مسيراً بجهاز تحكم يديره البيت الأبيض، كما أخفقت الدول الأوروبية في تقدير نتائج هذه الحرب عليها، ولربما كانت تتوقع أنهيار روسيا خلال زمن قياسي بسبب العقوبات المفروضة عليها كما توقعت أن إغراق أوكرانيا بسلاح أوروبي وأمريكي سيدفع موسكو للتراجع عن أهدافها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وانقلبت الرؤية، فأوروبا اليوم تتلقى الأزمة تلو الأخرى، ولا تسمع من حليفتها واشنطن سوى عبارات الدعم والتأييد في الوقت الذي يقوم فيه الزعماء الأوروبيون بجولات مكوكية بحثاً عن إمدادات الطاقة ليجنبوا مواطنيهم شتاءً قاسيا،ً ويجنبوا أنفسهم تحركاً شعبياً قد لا ينتهي إلا بالإطاحة بهم واحداً تلو الآخر.

و في الوقت نفسه الذي تلتهب فيه جبهة روسيا أوكرانيا وتغرف أوروبا نصيبها من حممها، فتحت جبهة أخرى في الخاصرة الأوروبية تنطلق منها شرارات نزاع يغذيه حقد تاريخي وتتلاعب به أصابع الإدارة الأمريكية، إنه النزاع التركي اليوناني الذي لا يكاد يهدأ حتى يشتعل مجدداً فمنذ اكتشاف حقول الغاز شرقي المتوسط ،عرف النزاع التركي اليوناني منعطفاً جديداً وطفت كل الأوجاع والأحقاد القديمة إلى السطح ابتداءً من الاحتلال العثماني لليونان إلى انهيار الدولة العثمانية مروراً باتفاقية لوزان ووصولا إلى تسليح الجزر اليونانية، إلى تركيا وإرسال الأخيرة لسفن تنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية المتنازع عليها شرق البحر الأبيض المتوسط.

توتر قد يدفع تركيا إلى غزو الجزر اليونانية القريبة من شواطئها، ومن بينها جزيرة كاستيلوريزو التي تبعد مسافة تقل عن كيلومترين عن شواطئ تركيا، وذلك بحلول عام 2023 موعد انتهاء مدة صلاحية اتفاقية لوزان، وقد قالها الرئيس التركي صراحة (يمكننا أن ننزل إلى هناك فجأة في إحدى الليالي)، هذا قد يحول منطقة الصفيح الساخن إلى منطقة حرب ستجد فيها أوروبا نفسها مرغمة على الوقوف إلى جانب اليونان الدولة العضو في الإتحاد الأوروبي، وستكون هذه الجبهة حرب استنزاف لتركيا والدول الأوروبية في آن واحد، فالغرب لن يقبل أن تخرج تركيا الدولة الإسلامية منتصرة، وأن تنجح في ضم أراضٍ يونانية على غرار ما فعلت روسيا في أوكرانيا، وقد يدفعنا هذا إلى التساؤل من المستفيد الأول من ضرب تركيا وأوروبا بحجر واحد.

جبهة أخرى جاهزة للاشتعال هي جبهة الصين وتايوان، والتي لم يتوقف فيها يوماً صب الزيت على النار خاصة في عهد الرئيس جو بايدن، فمنذ زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايبيه في شهر أغسطس الماضي، لم تتوقف المناورات العسكرية الصينية حول الجزيرة، ولم تتوقف تحذيرات بيكين للجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي من الإقدام على خطوات باتجاه إعلان الاستقلال.

غير أن واشنطن التي تدعم تايوان سياسياً وعسكرياً رغم عدم الإعتراف بها كدولة وعدم وجود علاقات دبلوماسية بين واشنطن وتايبيه، تواصل تصريحاتها الإستفزازية للصين، وكأنها تريد أن تدفعها إلى سيناريو روسيا وأوكرانيا، خاصة وأن الصين القوة الصاعدة تشكل تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة التي تريد أن تحافظ على مرتبتها الأولى عالمياً.

رغم أن الجبهات التي رسمت واشنطن خريطتها تجعل العالم يقف على عتبات حرب عالمية ثالثة وربما نووية، فإن السياسة الأمريكية في هذه المناطق تمتلك القدرة على التحكم في سقف هذا التوتر وتمنعه من الإنفجار ليبقى يستنزف طاقات وقدرات خصومها ومنافسيها إلى ما لا نهاية، وهي الوصفة الوحيدة في هذا العصر التي تحافظ بها واشنطن على مرتبتها الأولى عالمياً، ويصبح العالم أشبه بمسرح الدمى يحرك خيوطها البيت الأبيض.