"الاستيطان الرعوي" في الأغوار الفلسطينية يبتلع مزيدًا من الأراضي

2023-05-23 12:34:22

"أينما تستطيع أبقاري وأغنامي الوصول فالأرض لي" هذه القاعدة التي يستبيح بموجبها الاستيطان الرعوي الأرض الفلسطينية.

شبيبة التلال أو ما تُسمى أيضاً "جماعات تدفيع الثمن"، غالبيتهم فتية لم تتجاوز أعمارهم عشرين عاماً، رُبّوا على التطرف والعنف مع العرب، إنهم مجرد مثال واحد على جماعات استيطانية تنتشر في أراضي الضفة الغربيةـ، ينشطون ليل نهار في مصادرة الأراضي وإقامة البؤر الاستيطانية حيثما يناسبهم.

أجادوا تمثيل دور المستوطنين الرعاة، يسيرون في جماعات ويقتادون قطعاناً كبيرة من الماشية، وغالباً ما يتسلحون ببنادق أو هِراوات غليظة، وقد ترافقهم دوريات جيش الاحتلال لحمايتهم، أو تسبقهم طائرات استطلاعية مسيَّرة، يتنقَّلون بقطعانهم فوق أراضي الفلسطينيين كما يحلو لهم؛ فلا قيود تمنعهم ولا حدود تقف دون رغبتهم.

 لا يهمهم من يكون صاحب الأرض الأصلي، أليست كل الأرض مباحة لشعب الله المختار؟ وأي مساحة من الأرض تُعجبهم وتصلها ماشيتهم وترعى فيها؛ يضعون في منتصفها "كرفان" أو خيمة أو حتى عريشة، ويحيطونها بسياج أو يضعون علامات حدودية لها، لتصبح بين عشية وضحاها "بؤرة استيطانية" تصلها خدمات البنية التحتية بأقصى سرعة، ويُمنع الفلسطينيون من الاقتراب منها والرعي فيها، لتصبح مستوطنة قانونية بعد حين، بعد أن تمكَّن المستوطنون من سرقتها، هذا ملخص حكاية الاستيطان الرعوي الذي يبتلع الأغوار الفلسطينية بقسوة رهيبة.

 

لماذا مناطق الأغوار تحديداً؟

أراضٍ زراعية خصبة، واسعة، غنية بالمياه الجوفية، وتكثر فوق سطحها الينابيع وعيون الماء، دافئة شتاءً وحارة صيفاً، إنها الأغوار الفلسطينية.

تمتد الأغوار الفلسطينية من بيسان حتى صفد شمالاً، ومن عين جدي حتى النقب جنوباً، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غرباً، وتقع وسط النظم المناخية الثلاثة (حفرة الانهدام، وسلسلة جبال القدس، والبحر المتوسط).

مساحة الأغوار الإجمالية 720 ألف دونم، وتُشكل ربع مساحة الضفة وتمثل 50% من المساحات الزراعية في الضفة، وتتربع فوق الحوض المائي الشرقي الأهم في فلسطين، كل ذلك أثار شهية الاحتلال للمسارعة في السيطرة عليها وتكثيف إقامة البؤر الاستيطانية فيها مباشرة بعد حرب 1967، وبمختلف الوسائل بهدف تقليص الوجود الفلسطيني وتعميق السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، برعاية دولة الاحتلال.

أقام الاحتلال حتى الآن 36 مستوطنة على أراضي الأغوار، وسيطر على أكثر من 85% من مساحتها، رغم أنه يعيش فيها ما يزيد على 56 ألف فلسطيني بما فيها مدينة أريحا، أي ما نسبته 2% من مجموع سكان الضفة الغربية. وتضم 27 تجمعًا سكانياً ثابتاً على مساحة 10 آلاف دونم، وعشرات التجمعات الرعوية والبدوية، وتتبع إدارياً لثلاث محافظات فلسطينية هي محافظة طوباس (الأغوار الشمالية)، ومحافظة نابلس (الأغوار الوسطى)، ومحافظة أريحا (الأغوار الجنوبية).

بماذا يختلف الاستيطان الرعوي عن غيره من أنواع الاستيطان؟

الاستيطان الرعوي هو "أحد أشكال الاستيطان التي ابتكرها الاحتلال الصهيوني لاستعمار أرض فلسطين والسيطرة عليها وعلى كل ما تحويه من خيرات فوق الأرض وتحتها، وخصوصاً مناطق الأغوار، يقوم أساساً على السيطرة على الأرض والتمدد فوقها، بذريعة إيجاد مراعي يرعى فيها قطعان ماشيته".

تعتمد الجمعيات الاستيطانية على تصنيف "المزارع الاستيطانية" لضمان الاستيلاء السريع على مساحات كبيرة من الأرض.

يقود السكرتير العام لحركة "أمانا" الاستيطانية زئيف حيفر مشروعاً لشرعنة المزارع الاستيطانية ويمارس ضغوطاً على سلطات الاحتلال من أجل زيادة عددها، أكد لوسائل الإعلام أهمية هذه المزارع بقوله:" المزارع الاستيطانية الرعوية وسيلة أكثر نجاعة من البؤر التي تعتمد البناء الاستيطاني التقليدي، فبعد مضي 50 سنة استطعنا السيطرة على 100 كيلو متر مربع من مساحة الضفة الغربية، بينما سيطرت المزارع الرعوية الاستيطانية في فترة قصيرة على أكثر من ضعف هذه المساحة".

وبوضوح أكد أنهم يخططون لإنشاء مزيدٍ من البؤر الاستيطانية المخصصة لرعاة الأغنام والأبقار في مناطق "ج" التي يُخصص لها فوراً آلاف الدونمات، حتى لو سكنها بضعة مستوطنين فقط.

مثل ما حدث مع "خربة مكحول" في الأغوار الشمالية، إذ قرر مجموعة من مستعمري مستوطنة مسكيوت عام 2020 وضع سياجٍ شائك يحيط بالأراضي الخاصة المملوكة للفلسطينيين أفقدهم أكثر من 30 ألف دونم من أراضيهم.

يتطلب بدء مزرعة أو بؤرة رعوية موارد أقل بكثير من أنواع الاستيطان الأخرى، مما يسمح بسهولة الاستيلاء على مساحات شاسعة تمتد على آلاف الدونمات، وعادة ما تحتوي هذه المناطق، على المراعي ومصادر المياه والأراضي التي يزرعها الفلسطينيون.

أصدرت منظمة بتسيلم في نوفمبر 2022 تقريراً ورد فيه:" أقامت "إسرائيل" في أنحاء الضفة الغربية أكثر من 280 مستوطنة، يقطن فيها أكثر من 440 ألف مستوطن، تعترف "إسرائيل" رسمياً بـ 138 مستوطنة منها، نحو 150 بؤرة استيطانية لا تحظى باعتراف رسمي من الدولة، ما يقارب ثُلث البؤر الاستيطانية أُقيم في العقد الأخير ويسمى معظمها "مزارع".

تُنشئ الأذرع الاستيطانية هذه البؤر والمزارع من دون ترخيص، ومع ذلك، تحظى بالماء والكهرباء والخدمات الأخرى إلى جانب الحماية الضرورية لأفرادها وقطعانها من جانب عناصر الجيش، على امتداد المساحات التي تستطيع الوصول إليها، ثم يبدأ لاحقًا اللوبي الاستيطاني في الكنيست والحكومة الإسرائيلية بالترويج لتنظيم هذه البؤر، ومنحها التصاريح والتراخيص اللازمة، وإسباغ الشرعية القانونية عليها.

 

قوانين تُضبط على توقيت المصالح الاستيطانية

تمنع دولة الاحتلال الفلسطينيين من استخدام نحو 85% من مساحة الأغوار وشمال البحر الميت، وتسخِّرها لاحتياجاتها الخاصة.

وتحرِّم عليهم الإقامة والبناء فيها، عبر رفض إصدار تراخيص للبناء ومنع ربط التجمَّعات الفلسطينية بمرافق أساسية مثل شبكات الماء والكهرباء والطرقات.

وعندما يضطر السكان للبناء من دون ترخيص، تسارع الإدارة المدنية إلى إصدار أوامر الهدم وخاصة التجمعات الفلسطينية التي أقيمت إلى جوارها بؤر استيطانية جديدة.

يأتي بعدها دور شرعنة البؤرة الاستيطانية، وضمِّ الأرض المسلوبة بإعلانها وتسجيلها أراضي دولة، وهي الطريقة المركزية للاستيلاء عليها.

وقد بدأ تطبيق هذا الإجراء عام 1979، واستند إلى تطبيق قانون الأراضي العثماني منذ عام 1858 الذي كان ساري المفعول عشية الاحتلال عام 1948. 

وعندما يخدم القانون الأردني مصالح دولة الاحتلال، تُلقى القوانين العثمانية جانباً وتتمسك به، بذريعة أن عليها أن تنصاع لما ينصه القانون الدولي وذلك بالسير بموجب القانون القائم في الأراضي المحتلة قبل احتلالها، لكن حين يتعارض القانون الأردني مع مصالحها وأهدافها، تُلغيه بنص قانوني عسكري وتسنُّ مكانه قوانين تناسبها.

 وتضرب بعرض الحائط الكثير من المواثيق الدولية التي وقعّتها، وأُعدَّت لتقليص المساس بحقوق الإنسان في المناطق المحتلة.

ومن الممكن أيضاً إعلان البؤر مناطق عسكرية، أو ممتلكات متروكة ومصادرتها لاحتياجات جماهيرية، فقط لتوفر الغطاء القانوني لمشروع الاستيطان.

وبحسب منظمة بتسيلم، فإن دولة الاحتلال تصادر الأراضي الفلسطينية بذرائع شتى:

1. بعد أشهر قليلة من بدء الاحتلال أعلنت دولة الاحتلال جميع الأراضي المسجَّلة "أراضي دولة في العهد الأردني" (وهي تشكّل نسبة 53% من مجمل مساحة منطقة الأغوار وشمال البحر الميت) مساحات مغلقة.

2. في نهاية الستينيَّات وبداية السبعينيَّات، أعلن جيش الاحتلال 45.7% من أراضي الغور مناطق إطلاق نار يُمنع على الفلسطينيين دخولها.

3. نحو 20% من أراضي الغور خصصتها دولة الاحتلال لاحقاً محميَّات طبيعيّة وحدائق وطنيّة (رغم أن القليل منها طُوّر وأُعدّ للزوار)، وخُصَّصت أراضٍ أخرى للمستوطنات (وبعض هذه الأراضي يقع تحت أكثر من تصنيف واحد من هذه التصنيفات).

4. استولت دولة الاحتلال على مناطق في شمالي الأغوار لغرض الجدار الفاصل، وأقامت 64 حقلاً ملّغماً على مقربة من مسار نهر الأردن.

وفي الوقت الذي تُسرق فيه أراضي الفلسطينيين، وتُسيّج أمام أعينهم وتمنعهم "سلطة الطبيعة" من الرعي فيها "حفاظاً على البيئة"، يمنعهم جنود الاحتلال من تسييج حظائرهم وحقولهم، ويهدم السياج في حال إقامته.

 

الاستيطان الرعوي سيف مسلط على فلسطينيي الأغوار

وفقًأ لتقرير "رعاة في مراعي غيرهم" لمنظمة" ييش دين" "تستخدم دولة الاحتلال مزارع المواشي لإحداث تغيير كبير وبعيد الأمد على خارطة الاستيطان في الأراضي المحتلة يمكنها أن تؤدي إلى عمليات طرد على خلفية إثنيَّة، وسلب أراضي الكثير من الجماعات الفلسطينية".

يقول عارف ضراغمة الناشط ضد الاستيطان والجدار من طوباس في حديث خاص لــ "آفاق البيئة والتنمية": "في العامين الماضيين أقام الاحتلال 8 بؤر رعوية في الأغوار الشمالية، أحضروا أبقاراً وأغناماً أخذت تتجول في الأراضي الزراعية للفلسطينيين، وتُدمِّر المحاصيل وتلتهم الأشجار المثمرة".

وأضاف أن هذا النوع من الاستيطان حلَّ محل الإدارة المدنية وجيش الاحتلال في ملاحقة الرعاة الفلسطينيين ومحاصرتهم والتضييق عليهم وتقليص مساحات الرعي أمامهم، وإغلاق مناطق واسعة بذريعة أنها أراضٍ عسكرية مثل عين محكول، وسمرة، وعين شبلي، وخلة حمد، والمعرجات وغيرها، وفي الوقت ذاته نجده يفتحها للمستوطنين ليزرعوها كما يشاؤون. 

من جانبه يخبرنا الناشط والكاتب خالد معالي بقوله: "الاستيطان الرعوي أو الزراعي أسلوب قديم جديد يتسبب بفقدان الأرض ومحاصيلها دون حسيب أو رقيب، وهو ما يدفع المزارع لهجرها مجبراً تحت ضغط الخسارة وانعدام وجود أي نوع من الحماية أو التعويض.

ويزيد بالقول: "لا يقتصر هذا الاستيطان على الأرض الزراعية، بل يتعداه إلى المواشي التي يسرقها المستوطنون أو يقتلونها بأساليب مختلفة مثل الدعس والتسميم والنحر، وإذا حاول أحد المزارعين أو الرعاة الفلسطينيين الاعتراض أو صد المستوطنين، سارع الجيش لحماية مستوطنيه وضرب الفلسطيني وطرده أو اعتقاله".

ولا ننسى أن نمط تربية الماشية التقليدي في مناطق الأغوار ما يزال يعتمد على رعي الأعشاب البرية، في حين تنحسر مساحات الرعي أمام الراعي الفلسطيني، ويفقد قدرته على التنقل، ويُمنع من إطعام ماشيته مما تجود به الأرض، مما يضطره لشراء الأعلاف، وهو ما يجبره على دفع تكاليف عالية تفوق قدرته، ما يضطر بعض الرعاة لبيع جزء كبير من مواشيهم لتقليص التكاليف، فيما يُجبر آخرون في نهاية المطاف على اعتزال الرعي تماماً، لانعدام جدواه الاقتصادية، والتوجه للعمل في المستوطنات.

تتنوع أساليب بلطجة المستوطنين في الأغوار؛ على سبيل المثال، ينظِّمون دوريات على ظهور الخيل أو "التراكتورات" ويتسلَّحون بالعصيِّ والبنادق، ويطردون الفلسطينيين من المراعي، أو يُلقون عليهم صخور ضخمة من مناطق مرتفعة، وقد يُطلقِون عليهم الرصاص الحي، أو يُهاجمونهم بالكلاب فتصاب المواشي وأصحابها.

ويستخدم المستوطنون المراعي كذلك مكباتٍ لنفاياتهم تاركين مخلّفاتٍ بلاستيكيّة تتناولها الأغنام وتتسبّب في مقتلها، فقد سجّلت وزارة الزراعة الفلسطينية العثور على بلاستيك وخيطان في أمعاء كثيرٍ من الأغنام بعد موتها وتحللها. 

بلطجة بمختلف أساليبها تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من الأغوار وإجبارهم على الرحيل عن أراضيهم.

وتصبح عائلات عرضة للطرد من مساكنها مرات عدة سنويًا في الأغوار، بذريعة التدريبات العسكرية التي تُشكِّل خطرًا على حياة المواطنين، بسبب المخلفات العسكرية، كما تغدو مساحات واسعة من المحاصيل البعلية عرضة للتلف في التدريبات.

 كما أن الجرافات والآليات الثقيلة والمواد المتفجرة المستخدمة في التدريبات العسكريّة تتسبب بتآكل التربة وخسارة المزيد من الغطاء الأخضر. 

ويبتكر الاحتلال كل يوم أساليب جديدة ليصادر الأرض ويتيح لمستوطنيه العربدة على الفلسطينيين كما يشاؤون وبلا أي رادع.