أخوال والدي من الزحالقة

2025-05-05 09:37:52

أنا من السنديانة، التي لم اولد فيها ولم أعرفها ولم آكل من أشجارها ولم العب في حاراتها، أنا من قرية لم تعد على الخارطة أبداً، بل هي موجودة فقط في ذاكرتي وذاكرة أبنائي، السنديانة الآن هي مجرد حكاية يتناقلها الآباء والأبناء والأحفاد، أولادي الذين لا يعرفون شيئاً عن السنديانة هم أيضاً من السنديانة، ويعرفون بستان "قواريط عوض" الذي فوجئت بالدكتور مصطفى كبها يحدثني عنه ذات ليلة ماطرة، كما كتب الراحل الصديق نمر سرحان عنه أيضاً، أولادي الذين ولدوا في رام الله ويعبد يعرفون أيضاً أن جدهم رفيق كان دبيكاً رائعاً في أعراس أم الزينات وقنير وقاقون، وأنه وأشقاؤه الثلاثة الآخرون كانوا مطلوبين في الأعراس لمهارتهم وأجسامهم الطويلة الرشيقة، أما أنا فقد ولدت في يعبد ورغم بلوغي الخامسة والستين من عمري إلا أنني أعيش كمولود في السنديانة هذا بالضبط احساس كل من يرى شواهد القبور في مقبرتي رام الله والبيرة حيث يكتب على تلك الشواهد أن المتوفى من العباسية أو اللد أو الرملة رغم أنه لم يرها أبداً.

والدي، رفيق، ولد في السنديانة، كانت أمه عائشة عبد الرحمن من الزحالقة في كفر قرع، وقد استشهدت تحت الأنقاض في العام 1948 عندما رفضت الخروج من منزلها الذي لا تعرف غيره من العالم. والدي رفيق حدثني عن السنديانة بعد أن هجر منها اثر رصاصة تلقاها في رأسه كشطت جزءاً منه كان يكشف عنه كلما حدثني عن ذلك اليوم العصيب الذي هجر فيه من بلده، قال لي أنهم عرفوا ، هو وأشقاؤه ، بأنهم قواريط عوض أي أبناء عوض اليتامى ، وعوض هو جدي الذي هرب من يعبد ابان الحرب العالمية الأولى رافضاً للتجنيد الإجباري الذي فرضه الأتراك على شباب بلاد الشام للانخراط في الحرب ضد روسيا القيصرية ، هرب جدي عوض إلى كفر قرع وتزوج من آل الزحالقة ، وانتقل إلى السنديانة لدواعي العمل أو التخفي كما يبدو.

ولكن جدي توفي في ريعان شبابه وترك وراءه أربعة أطفال وبنت واحدة، عاشوا هكذا يتامى يصارعون من أجل البقاء، فأطلق عليهم اسم قواريط عوض، ويبدو أن الاسم كان من الشهرة بحيث كتب عنه كل من د. كبها أطال الله في عمره والمرحوم نمر سرحان الذي التقيته في عام 1996 في هيئة الاذاعة والتلفزيون الفلسطينية برام الله، والراحل نمر كان أيضاً من السنديانة وكتب عنها كلاماً جميلاً ورائعاً.

والدي الذي عاش في السنديانة حتى عام 1948 حدثني عن الحارة الفوقا والحارة التحتا، وعن الشجارات والأعراس وقصص الثأر والثورة ، حدثني عن "فرد البرابير" أي مسدس البرابولا الشهير في تلك الفترة وعائلة نزال المسيطرة ، وفي العام 1982 تعرفت على زميلة في جامعة اليرموك من آل نزال، فحاولت أن استثير فيها ذكريات السنديانة وأمجاد الأيام الخالية ولكن الحاضر كان أقوى على ما يبدو، حدثني والدي عن الحياة في ثلاثينيات القرن الماضي واربعينياته وكيف تعامل الشعب الفلسطيني مع "الكوبانية" ومع البوليس الإنجليزي ومع العائلات التي كانت تقود العمل الوطني آنذاك، ولست هنا بصدد التقييم، ولكن لا بد من القول إن الثورة الفلسطينية ورغم أنها تعرضت للحصار والخديعة من قبل أطراف عربية متعددة، إلا أنها كانت تعاني أيضاً قصوراً بنيوياً تمثل في التنظيم العائلي الهش والانتهازي وقصير النظر وكذلك في سطحية التعامل مع المحتل البريطاني في تصديقه أو التعاون معه ، ولا ننسى محاولات الحركة الصهيونية في التفكيك والاغراء والاغواء والاسقاط والتجنيد والتحييد.

الحركة الوطنية الفلسطينية في تلك الفترة كانت تمتلك خزاناً من الشجاعة والجرأة لا مثيل له ولكنها كانت برؤوس كثيرة وأجندات معارضة وسذاجة في معالجة الأمور، ولكن ذلك لا يقلل أيضاً من قوة العدو أصلاً . عدونا قوي جداً وما يزال. ويجب أن لا ننسى هذه الحقيقة . تعدد الرؤوس وقلة التنظيم وتعارض الأجندات وغياب خطة موحدة وانهيار التاريخ باندلاع الحرب العالمية الثانية ، كل ذلك جعل المشروع الصهيوني ينتصر، ليس لأنه ذكي أو قوي فقط، بل لأن العالم الغربي الاستعماري كان يرغب أيضاً بمكافأة الصهاينة بعد انتصار هذا الغرب على غرب آخر لا يقل عنه عنصرية وتوحشاً. يمكن القول هنا أن نكبة 48 كانت ليس فقط بسبب الضعف وقلة الحيلة وقلة الإمكانات وغياب الحلفاء، ولكن بسبب انعطافة التاريخ الكبرى، هناك تحولات في التاريخ لا تفيد معها الشجاعة أو الحكمة أو الكفاءة أيضاً.

أعود إلى والدي، الذي كان يفخر بأخواله من الزحالقة، فهم حكماء وأغنياء ولهذا لم يدخلوا في شجار قط، فأسأله لماذا؟! فيقول لي بفخر شديد: أن خاله كان يقول له أن من كانت "مصارينه" تحت الأرجل فعليه أن يتجنب العراك وأن يقبل بالتسوية، فأقول لوالدي مشاغباً: يعني هذا منطق تجار. فيقول بما شبه الغضب : هذه هي الحكمة.

- فلماذا اشتريت فرد البرابير وأنت مجرد مزارع حينها؟!

فيقول بذلك الصوت العالي العريض : وكيف أحمي قواريط عوض من شباب عائلة نزال وأبو العسل والجوابرة.

- طيب وهل زرت أخوالك في كفرقرع بعد عام 1967

- ألا تذكر عندما زرناهم بعد الحرب بأشهر قليلة.

- لا أذكر . فلماذا لا تكرر الزيارات لنتعرف على اخوالك الذين تحب.

 

يقول بما يشبه اللوعة: مات من نعرف.. وهناك أجيال متعجلة ومشغولة.

كل شيء يدعو إلى الصراخ من قحف الرأس.

في العام 1985 ، وبعد أن طردت من التعليم الحكومي بسبب دخولي المعتقل، عملت في المفاحم بالقرب من المسمية الصغرى، وهناك تعرفت على شخص من كفر قرع اسمه العبد القرعاوي، أنا أحب كفر قرع التي لم أدخلها بسبب حكايات أبي عن أخواله، العبد القرعاوي هذا كان شخصاً كريماً صاحب جثة ضخمة، كان يشتري لنا اللحم والخبز ويقول أن اللحم ضروري للإنسان حتى يعمل ويفرح، ولأني كنت الوحيد المتعلم هناك، فقد سلمني الحسابات وطلب مني أن لا أعمل مثل البقية، وصار يأخذني معه في سيارته المرسيدس البيضاء ويحدثني عن أحلامه ومشاريعه، قلت له أن أخوال والدي هم الزحالقة فقال إنهم أناس طيبون، كان العبد القرعاوي في الأربعينيات، مقبلاً على الحياة بكل نهم ونشاط ، وعندما جاء بعمال آخرين من كفرقرع حاولت أن اتصادق معهم ولكنهم كانوا في عالم آخر. بدا وكأننا من عالمين مختلفين ، كانوا يتحدثون مع بعضهم في بعض الأحيان باللغة العبرية التي لم أكن أتقنها حين ذاك، وعندما تشاجرنا لسبب ما نعتونا بأننا "ضفاوية" وكأنها شتيمة تتعلق بالشرف. النكبة لعينة تضع حدوداً أيضاً لا أدري أين العبد القرعاوي الآن ولكني أتمنى له كل خير اذا حياً والرحمة ان كان غير ذلك.

حكايتان أخيرتان عن أخوال والدي ، فعندما اعتقل شقيقي عدنان في مركز كركور للشرطة، تدخل أبناء الأخوال لإخراجه، وكان ذلك مدعاة لفرح والدي بشكل عجبت له، كان ذلك في العام 76، أو 77، أما الحكاية الأخيرة فقد التقيت بالدكتور جمال زحالقة، ولم يكن دكتوراً حينها، بل كان عضو كنيست ، فقلت له ممازحاً : أنت من عائلة أخوال أبي. رد بلهجة المزاح ذاتها: ولهذا أنت"طلعت " علينا.

لا أدري اذا كان الدكتور جمال يتذكر ذلك أو لا ولكنه حصل ذات يوم.

النكبة، أخيراً، تشكل شئنا أم أبينا مرتكزاً وجدانياً للهوية التي يعمل كثيرون لتفكيكها أو تبهيتها أو تذويبها. لم يتبق إلا الحكاية والخيال . إنها قوى التاريخ الخفية القادرة على تشكيله من جديد.