الفرصة الأخيرة؟ الاقتصاد الفلسطيني أمام لحظة الحقيقة مع حكومة مصطفى

في خضم الغبار الكثيف الذي يحيط بالواقع الفلسطيني، وفي ظل حرب مستعره في غزة، وانهيار الدعم الدولى المالي، وشيح الانفسام الذي يطارد كل مشروع وطني.... تتقدم حكومة الدكتور محمد مصطفى ، لا بورقة سحرية، بل بخيط أمل هش، يتطلب إعادة رسم معاناة ومعادلة الاقتصاد الفلسطيني من جذورها بأحرف جديدة.
فإن تشكيل حكومة بخبرة اقتصادية وحياد سياسي نسبي يفتح الباب نحو إعادة صياغة رؤية تنموية وطنية تعزز الصمود، وتبني اقتصادًا إنتاجيًا مستدامًا.
ليس المطلوب من هذة الحكومة أن تفكك الاحتلال، لكنها مطالبة بأن تكف عن التعايش مع نتائجة. لم يعد مقبولاً أن يُدار الاقتصاد الفلسطيني كملف إداري، أو بوصفة وظيفة محاسبية تنتهى عند ميزان المراجعة وتوازن الدفاتر . المطلوب هو قيادة إقتصادية شجاعة ، لا تُدار بالأرقام فقط، بل بالبوصلة.
الاقتصاد الفلسطيني يعاني من طابع استهلاكي يعتمد بشكل مفرط على التحويلات والمساعدات، ولا يمتلك قاعدة إنتاجية قوية، سواء في الزراعة أو الصناعة أو التكنولوجيا. ولذلك، فإن أولى أولويات الحكومة يجب أن تكون بناء اقتصاد إنتاجي متنوع
اقتصاد هش ومربك... لكن ليس ميؤوسًا منه
الواقع الاقتصادي لا يحتاج إلى "تجميل رقمي"، بل إلى مكاشفة واضحة. البطالة في الضفة تتجاوز 25%، وفي غزة تخطت 70%. أكثر من نصف الخريجين عاطلون عن العمل. القاعدة الإنتاجية تآكلت لحساب الاقتصاد الخدمي الريعي. العجز المالي مستمر، وتبعية عميقة للاقتصاد الإسرائيلي في كل شيء: من الكهرباء إلى الشوكولاتة!
لكن وسط هذا السواد، ثمة مساحات للضوء. ففلسطين لا تنقصها العقول ولا المواهب ولا فرص الاستثمار. بل ينقصها الإرادة في كسر الدائرة: دائرة التبعية، والفساد الصغير والكبير، والعقل البيروقراطي الخائف من التغيير.
المطلوب: تحويل الحكومة من "محاسب عام" إلى "مخطط اقتصادي"
إن أهم ما يمكن لحكومة مصطفى أن تقدمه هو الانتقال من عقلية إدارة الأزمة إلى بناء استراتيجية إنتاج اقتصادي بديل، تقوم على:
1. التحرر التدريجي من الاقتصاد الإسرائيلي، بدءًا من الغذاء والطاقة، وليس انتهاءً بسوق العمل. لا بد من خطة واضحة لإحلال الواردات، وتحفيز الاستهلاك المحلي، ودعم الصناعات الصغيرة.
2. تعزيز القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة التحويلية، لا عبر شعارات، بل بتوفير تمويل ذكي، وتحديث القوانين، وفتح الأسواق، خاصة العربية.
3. تمكين الشباب والمرأة من المشاركة في الاقتصاد، عبر برامج تشغيل مرنة، وتشجيع الريادة، وربط الجامعات بسوق العمل الحقيقي.
4. إصلاح النظام المالي بشكل شفاف وعادل: توسيع القاعدة الضريبية، وقف الهدر، وزيادة الاستثمار في المشاريع التنموية بدل الإنفاق الجاري.
الزراعة ليست نوستالجيا.. بل أداة للتحرر
في زمنٍ تبدو فيه السيادة حلمًا، تبقى الزراعة إحدى أدوات المقاومة الصامتة. المطلوب ليس العودة إلى "الفأس والبعير"، بل دعم الزراعة الذكية والمربحة، مثل الزراعة الرأسية، والزراعة في البيوت المحمية، وإدخال التكنولوجيا في الإنتاج والتسويق. علينا استعادة الأغوار، ليس بالشعارات، بل بالاستثمار.
نحو اقتصاد رقمي حر
في وقت تغلق المعابر وتتحكم إسرائيل في الحدود والموارد، يبرز الاقتصاد الرقمي كنافذة مشرعة. فريادة الأعمال، والعمل الحر عبر الإنترنت، والتكنولوجيا المالية (Fintech) ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية. المطلوب تأسيس بيئة قانونية، وضمان الوصول إلى الإنترنت، وتمكين الشباب من دخول السوق العالمية دون تأشيرة.
لا تنمية بدون ثقة.. ولا ثقة بدون شفافية
الثقة بين المواطن والحكومة وصلت إلى مستويات متدنية. ولا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن ينجح دون بناء جسور هذه الثقة من جديد. الشفافية المالية، والمساءلة على الأداء، وإشراك المجتمع المدني في صياغة السياسات ليست "ترفًا ديمقراطيًا"، بل شرط للنجاح.
المطلوب: قيادة اقتصادية، لا "مدير مالي"
تحديات اللحظة تتطلب من حكومة مصطفى أن تتصرف كقيادة اقتصادية، لا كجهة إدارة مالية. أن تتعامل مع الاقتصاد كأداة نضال، لا كدفتر حسابات. أن تطرح رؤية لعشر سنوات، لا ميزانية لسنة واحدة.
ولا بد من الاعتراف بأن الإصلاح الحقيقي لن يكون سهلًا. سيصطدم بمصالح، وتيارات، وكسل إداري، وربما إحباط شعبي. لكنه، رغم ذلك، ممكن. وقد يكون الفرصة الأخيرة لإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني من بوابة الاقتصاد.
كلمة أخيرة: لا اقتصاد بلا سيادة.. لكن لا سيادة بلا اقتصاد
صحيح أن الاحتلال يقيد كل شيء: الأرض، الموارد، السوق، الحدود… لكن مواجهة الاحتلال تبدأ بتقوية الذات. باقتصاد يحمي المزارع من المصادرة، ويوفر للشاب وظيفة بديلة عن العمل في المستوطنات، ويمنح النساء أدوات الكرامة لا المساعدات الموسمية.
باختصار، اقتصاد ينهض على الكفاءة، العدالة، والإرادة.
فهل تملك حكومة مصطفى هذه الإرادة؟