نكبة ثانية ومشروع التهجير يتكرر.. هذه المرة برعاية إنسانية!

منذ أكتوبر 2023، والعالم يراقب بصمت مشهدًا أكثر فظاعة من أي مشهد سابق في تاريخ النكبات الفلسطينية أو الإنسانية. القصف المستمر، الدمار غير المسبوق، والمجازر الجماعية التي ترتكب بحق أهل غزة، ليست فقط جزءاً من حرب تقليدية، بل هي – بكل وضوح – جزء من مشروع تهجير ممنهج، من خلال مشروع استيطاني استعماري في الضفة وجرائم الحرب والإبادة بهدف التهجير في غزة، مشروع التطهير يُراد له أن يتحقق وبمشاركة أطراف إقليمية ودولية.
ما يحدث ليس فقط جريمة ضد الإنسانية، بل تكرار لسيناريو النكبة الأولى، ولكن بأدوات مختلفة، وتحت عناوين مموّهة: "معابر إنسانية"، "خطة إجلاء مؤقتة"، و"حلول انتقالية". في الحقيقة، هذه العناوين تُخفي وراءها منظومة تهجير قسري متكاملة، تتواطأ فيها أطراف متعددة لإخراج الفلسطيني من أرضه، مرّة أخرى. فبدلاً من وقف الإرهاب الإسرائيلي نجد العالم يحاول إيجاد الحلول الإنسانية، إبر بنج ومواساة بدلاً من التعامل مع جذر المشكلة المتمثل بالاحتلال الصهيوني.
تم تسريب وثيقة استخباراتية إسرائيلية تشير إلى أن التهجير إلى خارج غزة يتم التخطيط له عبر عدة محطات: تبدأ من معبر كرم أبو سالم، مروراً بمطار رامون، وصولاً إلى وجهات محددة تم ذكرها بشكل واضح، لتسهيل عمليات الإجلاء تشمل: الولايات المتحدة, دول أوروبية كاليونان وإسبانيا، ودول مغاربية كالمغرب وليبيا، بالإضافة إلى كندا وغيرها من الدول العربية التي تم ذكرها صراحة في الورقة المسربة.
هذه التفاصيل ليست مصادفة، فالمشروع الصهيوني منذ بدايته تأسس على فكرة التهجير والإحلال السكاني. هذا ليس مجرد تحليل سياسي، بل هو حقيقة تاريخية موثقة. ومن يقرأ الوثائق الأولى لحركة الصهيونية يدرك جيدًا أن إقامة الدولة لم يكن هدفها التعايش، بل السيطرة والإقصاء، وتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي بوسائل عنيفة وممنهجة. ما يحدث اليوم في غزة ليس سوى امتداد عضوي لهذا المشروع. إسرائيل مقتنعة أن بمقدورها فرض واقع جديد عبر التهجير التدريجي القسري. لا تفعل ذلك عبثاً، بل وهي تراقب تجارب دولية سابقة. خذوا السودان مثالاً: في أقل من عام، تم تهجير أكثر من 4 ملايين مدني في ظل حرب أهلية، ولم يتحرك العالم إلا بعد أن أصبح الأمر "أمراً واقعاً". ولنأخذ دولة الاحتلال كمثال آخر دليل أن خطط التهجير الممنهج أوجدت مشروع الدولة الصهيونية على الأرض من خلال موجات التهجير اليهودية التدريجية من مختلف أنحاء العالم لخلق الكيان اليهودي على الأرض الفلسطينية.
في هذه الظروف، من الضروري أن يدرك الفلسطيني أن مشروع التهجير ليس فقط محتملاً، بل يجري تنفيذه عملياً الآن. فبينما نتابع صور القصف والدمار في غزة، هناك من يعمل على إعادة هندسة الوجود الفلسطيني على الأرض. يتم تحضير وجهات، وتنسيق مسارات، وترويج روايات مفادها أن "الخروج هو الحل الإنساني الوحيد". لكن، ماذا عن القانون الدولي؟ وماذا عن مبادئ حقوق الإنسان والكرامة والحق في الأرض؟ صحيح أن هذا المشروع يناقض بوضوح قواعد القانون الدولي الإنساني، ويصنف كجريمة تهجير قسري. ولكن، في ميزان المصالح السياسية، يبدو أن القانون وحده لا يردع من يملك القوة العسكرية والدعم السياسي.
للأسف، العقل الغربي – وخصوصاً إدارة ترامب– لم تتعامل مع الفلسطينيين كـ"قضية استثنائية"، كما نحب نحن أن نُقدّم أنفسنا. بل نُعامل كعبء يجب التخلص منه. ومن هنا يأتي التواطؤ مع خطة التهجير: صفقات، تسهيلات، ممرات، وربما في مرحلة لاحقة، تسويات إقليمية يتم فيها توطين اللاجئين بشكل دائم.
هذه ليست نظرية مؤامرة. بل واقع مرّ يجب أن ننطلق منه في بناء استراتيجية مقاومة شاملة. المقاومة لا تعني فقط حمل السلاح، بل تعني أيضاً التمسك بالوجود، بالبقاء، بالهوية، ورفض الانسحاب تحت أي ظرف.
نحن بحاجة إلى ثلاث خطوات فورية: فضح مشروع التهجير دوليًا بلغة القانون والسياسة، وليس فقط بلغة الألم والإنسانية، وخلق رأي عام فلسطيني موحّد يرفض الاحتلال العسكري ويتعامل معه كجذر للنكبة المستمرة، رأي موحد بأن غزة/ فلسطين ليست ملفاً إنسانياً بل قضية سياسية عادلة والعمل على استراتيجية وطنية تعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني على أسس البقاء والكرامة والسيادة.
في النهاية، النكبة ليست ذكرى. النكبة مستمرة ما دامت النية في طرد الفلسطيني من أرضه قائمة. ولكننا، قادرون على الوقوف من جديد، شرط أن نقرأ المشهد بوعي وجرأة، لا بمشاعر فقط، وأي أمل للبقاء في ظل التطهير العرقي والتهجير القسري يبداً من إنهاء الانقسام والوحدة وهذا دور منظمة التحرير الفلسطينية لفرض شخصيتها القانونية وهويتها الجامعة فوراً.