فلسطين: فرصة اقتصادية تنتظر التفعيل العربي

2025-05-20 13:40:31

في ظل التحولات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وما نشهده من توقيع اتفاقيات استثمارية كبرى بين بعض الدول الخليجية وشركاء دوليين، تبرز فلسطين بوصفها مساحة واعدة لم تُستكشف بعد بما فيه الكفاية على صعيد الاستثمار العربي المشترك. ولئن كان الشعب الفلسطيني يواجه تحديات سياسية وإنسانية مزمنة، فإن الأفق الاقتصادي الفلسطيني مليء بالطاقات الكامنة والفرص الجاذبة، التي تستحق التأمل والاستثمار فيها.

إن التجربة الاقتصادية الخليجية تمثل نموذجًا متقدمًا في التنمية، خصوصًا فيما يتعلق بتنويع مصادر الدخل، وتشجيع الابتكار، وخلق بيئة محفزة لريادة الأعمال والتكنولوجيا. وهي تجربة يمكن الاستفادة منها وتوسيع دوائرها لتشمل الاقتصاد الفلسطيني، الذي يضم مقومات حقيقية للنمو، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى شراكات استراتيجية ترتكز على التكامل لا التبعية، وعلى الفرص لا المساعدات.

فلسطين: طاقات كامنة تبحث عن شراكات

ما تمتلكه فلسطين من موارد بشرية مثقفة، وقطاع تعليمي قوي، وكفاءات في مجالات متنوعة كالطب والهندسة والتكنولوجيا، يشكل قاعدة صلبة لأي استثمار نوعي. لدينا أكثر من 18 جامعة وكلية، منها ما يحتل مراكز متقدمة في التصنيفات الإقليمية، ونسبة عالية من خريجي التعليم العالي، فضلًا عن ازدهار لافت في قطاع ريادة الأعمال، خاصة في مدن مثل رام الله، نابلس، غزة، والخليل.

وعلى الرغم من التحديات المتعلقة بالاحتلال، فإن المبادرات الاقتصادية الناشئة في فلسطين أثبتت قدرة فائقة على الصمود والابتكار. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة تطورًا في حاضنات الأعمال، واهتمامًا متزايدًا بالتكنولوجيا المالية، والزراعة الذكية، والطاقة المتجددة، والتعليم المهني والتقني. كل هذا يدل على وجود بنية فكرية وتنظيمية تتطور رغم الصعوبات، وتنتظر فقط شركاء يؤمنون بالإمكانات الفلسطينية ويسهمون في تفعيلها.

من الدعم إلى الشراكة: تحول ضروري في الذهنية الاقتصادية

من المهم اليوم إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية بين فلسطين والدول العربية، خصوصًا الخليجية، بعيدًا عن نموذج "الدعم الطارئ"، باتجاه "الاستثمار المستدام". ففلسطين لا تحتاج فقط إلى المساعدات، بل إلى فرص، إلى ثقة، وإلى تمويل ذكي يمكنه أن يحول الأفكار الريادية إلى مشاريع إنتاجية، وأن يجعل من الكفاءات الشابة رافعة للتنمية المحلية.

إن الانتقال من نموذج "المساعدة" إلى "الاستثمار" هو تحول استراتيجي يخدم الطرفين: فهو يُعزز صمود الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه يُوفر فرصًا جديدة للمستثمرين العرب في قطاع ناشئ، يتمتع بميزة تنافسية في مجالات التعليم، التكنولوجيا، والخدمات الرقمية.

كيف يمكن البدء؟ نماذج تعاون مقترحة

هناك العديد من المبادرات التي يمكن أن تشكل أساسًا عمليًا للتعاون الاقتصادي بين فلسطين ودول الخليج، منها على سبيل المثال:

  1. إنشاء صندوق استثماري خليجي فلسطيني مشترك لدعم المشاريع الريادية والتكنولوجية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
  2. تأسيس حاضنات أعمال تقنية مشتركة في الجامعات الفلسطينية، تستفيد من الخبرات الخليجية في ريادة الأعمال، وتربطها بسوق العمل الإقليمي.
  3. إطلاق مناطق صناعية أو حرة عربية في فلسطين بتمويل وإدارة مشتركة، تستهدف تصدير المنتجات الفلسطينية إلى الأسواق العربية.
  4. تنفيذ برامج تدريب رقمي وتمكين مهني بتمويل خليجي، لرفع كفاءة الشباب الفلسطيني ودمجهم في الاقتصاد الرقمي.
  5. تعزيز التبادل الأكاديمي والتقني من خلال شراكات بين الجامعات الفلسطينية ونظيراتها في الخليج، في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، إدارة الأعمال، والاقتصاد الأخضر.

دور الفلسطينيين في الخارج: جسر اقتصادي لم يُستثمر بعد

يمتلك الفلسطينيون في المهجر، وخاصة في دول الخليج، خبرات اقتصادية وتجارية نوعية، وقد أثبتوا حضورهم القوي في قطاعات العقارات، والتكنولوجيا، والخدمات المالية. هؤلاء يمكن أن يكونوا الجسر الطبيعي لتطوير شراكات اقتصادية ناجحة مع الداخل الفلسطيني، سواء عبر الاستثمار المباشر، أو من خلال نقل المعرفة وبناء الشراكات العابرة للحدود.

وهنا تأتي أهمية أن تبادر الجهات الفلسطينية الرسمية والقطاع الخاص المحلي إلى بناء منظومة تشجيعية وتنسيقية تستقطب هذا الطيف الواسع من رجال الأعمال الفلسطينيين في الخليج، وتُشركهم في رسم مستقبل اقتصادي جديد للبلاد.

مسؤولية فلسطينية داخلية: تهيئة البيئة الجاذبة

من جهة أخرى، تقع على عاتق المؤسسات الفلسطينية مسؤولية تهيئة بيئة قانونية وتشريعية وتنظيمية أكثر جاذبية للمستثمر العربي. يجب أن يكون هناك رؤية اقتصادية وطنية واضحة، تعكس فرص الاستثمار الحقيقي، وتزيل العقبات البيروقراطية، وتوفر ضمانات عادلة لحماية رأس المال.

كما ينبغي على الوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارة الاقتصاد الوطني وهيئة تشجيع الاستثمار، أن تطور أدوات حديثة للتسويق الاقتصادي، تُبرز قصص النجاح، وتقدم فلسطين كوجهة استثمارية ذات خصوصية، ولكن أيضًا ذات جدوى.

خاتمة: فلسطين... مشروع اقتصادي إقليمي بامتياز

إن بناء شراكة اقتصادية عربية مع فلسطين، لا يعني فقط دعمًا لقضية عادلة، بل هو أيضًا استثمار ذكي في استقرار المنطقة ومستقبلها. فكل فرصة تُمنح لشاب فلسطيني، وكل مشروع يُطلق في نابلس أو غزة أو القدس، هو مساهمة مباشرة في صناعة الأمل، وترسيخ التنمية، وتقوية النسيج العربي المشترك.

فلسطين ليست عبئًا اقتصاديًا، بل فرصة اقتصادية مهدورة. والمطلوب اليوم هو الشجاعة في التفكير، والجرأة في المبادرة، والإيمان بأن فلسطين يمكن أن تكون فاعلًا اقتصاديًا حقيقيًا حين تُمنح الفرصة.