التجويع وقطع المياه: سلاح الاحتلال لخنق الشعب الفلسطيني

في غزة، لا يُستخدم الجوع والعطش كأدوات جانبية للحرب، بل كسلاحٍ ممنهج يفتك بسكانها بصمت بطيء، ينهك الأجساد ويقهر الأرواح.
هنا، في هذا الركن الضيق من العالم، تتحول الحياة إلى معركة يومية من أجل البقاء؛ يتحول رغيف الخبز إلى أمنية، وقطرة الماء إلى معركة، ما يجري ليس نتيجة فوضى الحرب، بل تنفيذ دقيق لسياسة تجرّد الإنسان من إنسانيته، الجوع ليس عارضًا، والعطش ليس مصادفة، كلاهما أدوات قتالية، تُستخدم ضد شعبٍ يقاتل من أجل البقاء.
مع تصعيد الحصار، اختفى ما تبقى من ملامح الحياة الأساسية، توقفت الكهرباء، تعطلت محطات التحلية، انهارت الرعاية الصحية وفي إبريل 2025 ، أعلنت الأونروا نفاد مخزون الطحين، تلاها برنامج الأغذية العالمي بنفس الإعلان، وكأن ذلك الجوع كان متوقعًا ومُدارًا، لم يكن الناس بحاجة إلى تنبيه من منظمة ما، كانوا يشعرون بالجوع ينهش أجساد أطفالهم كل ليلة، بصمت مؤلم لا يجد من يصغى له.
أكثر من مليوني إنسان تُركوا في مواجهة العدم، دون غطاء، دون حماية، وسط صمت دولي يُشبه التواطؤ أكثر مما يُشبه الحياد، في مشهد يومي بات معتادًا، تُقسم الأمهات أرغفة الخبز على أطفالهن وتنسحبن من وجبات الطعام، خشية أن يسبق الموت أبناءهن إلى النوم، هناك من بدأ يطحن المعكرونة بدلاً من الدقيق، وآخرون يأكلون الخبز المتعفن على مضض. الأسواق شبه فارغة، والأسعار خارج حدود المعقول، والمساعدات مقطوعة، والرواتب حين تصل تُستهلك قبل أن تلمس اليد بسبب العمولة.
لكن المشهد لا يكتمل دون العطش، في غزة، لا يُستخدم الماء فقط كحق مسلوب، بل كسلاح يضغط على أرواح الناس، أكثر من 85% من البنية التحتية للمياه خرجت عن الخدمة بفعل القصف أو انقطاع الوقود، حصة الفرد اليومية تراجعت إلى ما بين 3 إلى 5 لترات – بالكاد تكفي للشرب، إن وُجدت، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ويضطر السكان للانتظار ساعات طويلة تحت الشمس، فقط للحصول على ماء لا يضمن حتى السلامة من الأمراض.
عامل في محطة تحلية يصف المشهد بكلمات موجعة: "نشتري الوقود من السوق السوداء بأسعار جنونية، فقط كي نُشغّل الماكينات لبضع ساعات، ونعطي الناس قطرات لا تسد عطشهم."، الأطفال ينامون عطشى، والأمهات ينهكن من كثرة الاعتذار، إنها تفاصيل يومية تُنهك الأرواح أكثر مما تُنهك الأجساد، العطش هنا ليس حدثًا طارئًا، بل واقع متواصل، يُفرض على الناس كما يُفرض الجوع، دون خيار، دون بديل.
هذه المجاعة، وهذا العطش، لم يأتيا نتيجة الجفاف، ولا بفعل كوارث طبيعية، بل كخطة، كتكتيك حرب، تُدار المجاعة كما تُدار المعارك، وتُفرض القيود على المياه كما تُنشر القوات، إنها سياسة واضحة، تقول للناس: لن نطلق النار، لكننا سنمنع عنكم الحياة.
الأرقام، مهما كبرت، لا تُترجم المعاناة بدقة، خلف رقم" 65,000طفل يواجهون خطر الموت بسبب سوء التغذية " وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، هناك أمّ تفكر كل ليلة في كيفية تقسيم وجبة واحدة بين أربعة صغار، خلف رقم "1.4 مليون إنسان مهدد بالعطش"، هناك رجل يمشي لساعات يحمل غالونًا فارغًا، يطمح فقط إلى تعبئته ليوم واحد.
لكن الأشد إيلامًا من كل ذلك هو الصمت، في عام 2024، حين بدأت المجاعة تُطل برأسها، كان هناك صوت عالمي – خافت، لكنه حاضر، أما اليوم.. فالغزة تموت بصمت، لا عناوين، لا تقارير، لا حتى لحظة تأمل جماعية، وكأن موت الفلسطينيين صار خلفية لا تثير الانتباه.
ومع كل هذا، لا أحد يلوّح براية الاستسلام، لا لأن القدرة على الاحتمال باقية، بل لأن لا خيار آخر في واقع حاصر كل الخيارات، في ظل كل هذا العجز، الغزيون يصنعون الخبز من بقايا الطحين، يستخدمون ماء البحر، ويقفون في الطوابير بكل ما تبقى فيهم من كرامة، والآباء يبحثون في كل زاوية عن شيء يُشعر أطفالهم أن العائلة ما زالت قادرة على الحياة.
هذه المجاعة، وهذا العطش، ليسا فقط اختبارًا لسكّان غزة، بل مرآة لأخلاق العالم. فحين يُتركون هكذا، محاصرين بالجوع، مشلولين بالعطش، من دون غذاء ولا دواء ولا ماء… لا بد من أن نسأل: أي عالم هذا الذي يرى كل ذلك، ويواصل صمته؟