الأستغلال السياسي "لفزاعة معاداة السامية"

2025-05-22 18:16:36

رغم الأتفاق أو الأختلاف حول النظريات الأنثروبولوجية والتاريخية التي تناولت مفهوم "السامية" والشعوب "السامية"، إلا أن الثابت أن هذا التصنيف ظل عبر العقود عرضة للتأويلات السياسية والأستخدامات الإيديولوجية ، خصوصا من قبل الحركة الصهيونية التي اختزلت هذا المفهوم في خدمة مشروعها الاستيطاني، مستخدمة إياه كفزاعة لأداة قمع واستغلال لمواجهة أي أنتقاد يطال سياسات الأحتلال الإسرائيلي .

تشير دراسات تاريخية وأنثروبولوجية عديدة إلى أن الكنعانيين ، الذين أستوطنوا أرض فلسطين منذ آلاف السنين ، يُعدّون من أوائل الشعوب السامية، وأن الفلسطينيين المعاصرين هم الأمتداد الطبيعي لتلك الشعوب . بل إن جزءًا من المكون اليهودي نفسه ، في مراحله الأولى ، كان من بين ساكني هذه الأرض الفلسطينين ، قبل أن تأتي موجات الهجرات الأستيطانية الصهيونية من أوروبا الشرقية والوسطى ، خصوصا من أصول خزرية وأشكنازية ، لتُشكل لاحقا النواة الأساسية للمشروع الصهيوني الذي لا يحمل أية صلة حضارية أو سلالية عضوية بهذه الأرض .

ومن جديد ، تطل علينا دعاية وفزاعة الحركة الصهيونية ودولة الأحتلال الإسرائيلي عبر بوابة قديمة "معاداة السامية"، لتبرير جرائمها المستمرة ، وآخرها وصف بنيامين نتنياهو و دونالد ترامب لعملية إطلاق النار على موظفين في السفارة الإسرائيلية بواشنطن بأنها "عمل معادٍ للسامية" رغم انها عمل فردي من مواطن أمريكي لم ينتهي التحقيق معه بعد . هذا الأستخدام المتكرر والمشوّه للمصطلح لا يهدف إلا إلى تشويه الحقائق ، وفرملة التضامن الدولي المتصاعد مع القضية الفلسطينية ، خاصة بعد اتساع رقعة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وتمدد عزلة حكومة نتنياهو على مستوى العالم ، بل وداخل إسرائيل نفسها.

الآن ، ستستغل أجهزة الأمن الأمريكية وبعض الأطراف الرسمية قانون "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست " ، الذي ساهم ترامب في صياغة نصوصه خلال دورته الأولى لتجريم كل من ينتقد السياسات الإسرائيلية بحجة "معاداة السامية". وهو قانون يخلط عمدا بين أنتقاد مشروع سياسي استعماري أستيطاني ، وبين معاداة شعب أو ديانة ، رغم عدم انطباق مفهوم شعب على اليهود كما على المسيحين او المسلمين .

تدّعي إسرائيل أن اليهود هم "ضحايا التاريخ"، في إشارة مستمرة للمحرقة النازية الهولوكوست ، لكنها تتجاهل أن هذه المحرقة ، رغم فظاعتها ، لم تكن موجهة ضد اليهود وحدهم ، بل استهدفت شعوبا أوروبية عدة ، ومن بينهم الفقراء من اليهود الأوروبيين أنفسهم ، الذين كانوا ضحية تواطؤ نخب من الحركة الصهيونية مع النظام النازي آنذاك ، كما كشفت وثائق "اتفاقية هآعفارا" الموقعة بين الصهاينة والنازيين في ثلاثينيات القرن الماضي . تلك الأتفاقية سعت لدفع اليهود نحو الهجرة إلى فلسطين وتأسيس كيان أستيطاني يخدم أهداف الأستعمار الغربي .

اليوم ، تتبدد هذه السرديات أمام الرأي العام العالمي ، وتتكشف الطبيعة الحقيقية لمنظومة دولة أستعمارية إحلالية ، تحاول أن تخلط الأوراق من جديد ، باستخدام روايات دينية ومصطلحات مضللة ، أو عبر عمليات استخباراتية تُثير الرأي العام ليتم استغلالها في قمع الحركات المناهضة لجرائم الأحتلال الإسرائيلي ، بينما هي ، أي إسرائيل ترتكب يوميا جرائم محرقة القرن ٢١ وإبادة ممنهجة بحق شعب أعزل يُباد تحت الأحتلال والأستيطان والضم والتجويع والتهجير والقصف غير المسبوق في التاريخ المعاصر ، بل حتى منذ اكثر من ٧٧ عاماً. 

لكن من هو السامي فعلاً ؟ ومن هو العدو الحقيقي للسامية؟ فإذا عدنا إلى الجذور التاريخية واللغوية ، نجد أن "الساميين" يشملون العرب ويهود هذه الأرض أصلاً على حد سواء . بل إن العرب ، ومن ضمنهم الفلسطينيون ، هم من الشعوب السامية الأصلية في هذه الأرض . أما معظم من قاد المشروع الصهيوني ، فجاؤوا من خارج المنطقة ولا يربطهم بها أي أنتماء حضاري أو تاريخي .

نزع الفلسطيني من أرضه ، وحرمانه من حق العودة ، وتهجيره وقتله اليومي ، ليست فقط جرائم ضد الإنسانية وحرائم حرب ، بل هي في جوهرها جرائم ضد السامية الحقيقية ، لأننا نحن ، أبناء هذه الأرض ، الساميون الحقيقيون وفق بعض النظريات التي أشرت لها ببداية المقال ، نُقتل ويُسلب منا الوطن باسم "الدفاع عن السامية".

لقد أدرك كثير من المفكرين الطابع الأستغلالي لهذا التلاعب . ومن أبرزهم المفكر الأممي وقائد الثورة الإشتراكية "فلاديمير لينين" ، الذي وصف الصهيونية في كتابه حول المسألة اليهودية ، بأنها "العدو الرئيسي للسامية ، لأنها تُحوّل وعي اليهود الكادحين عن النضال الطبقي ، وتستخدم الدين والقومية المشوهة لخدمة المصالح الإمبريالية، وتوجههم لأستعمار أوطان الآخرين بدلاً من التحرر داخل مجتمعاتهم الأصلية."

هذا التوصيف الدقيق للصهيونية والذي أتفق معه ، يُؤكد أنها ليست حركة تحرر كما تدعي ، بل حركة رجعية أستعمارية تسعى لتبرير الأحتلال وتبرئة جرائمه تحت غطاء "المظلومية اليهودية"، بينما تُوظف تهمة "معاداة السامية" لقمع أي انتقاد لسياساتها ، حتى لو صدر عن يهود أنفسهم ، كما هو الحال في الولايات المتحدة اليوم .

إن المحرقة الحقيقية الجارية اليوم الهولوكوست الحديث ، هي تلك التي تقع على أرض فلسطين . فمنذ أكثر من عام ونصف ، تشهد غزة حرب إبادة جماعية تُرتكب فيها أبشع المجازر، ويُقتل ويُجرح مئات الآلاف ، وتُدمّر أحياء ومخيمات بأكملها كما بالضفة الغربية أيضاً ، ويُقصف الأطفال والمدارس والمستشفيات ، وتُمنع المياه والطعام والدواء ، وتمارس الفوقية اليهودية وفق قوانين عنصرية ضد شعبنا الفلسطيني الباقي في أرضه التاريخية داخل "اسرائيل" ، بينما المجتمع الدولي يراقب بصمت ، أو يشارك بالتواطؤ كما تفعل بعض القوى الأستعمارية منه .

مقاومة هذه الجرائم ، وفضح هذا النفاق ، والدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني غير القابلة للتصرف ، والتي أقرّتها كافة مواثيق القانون الدولي والمنظمات الأممية ، ليست أعمالاً "معادية للسامية"، بل هي في جوهرها دفاع عن السامية الحقيقية ، وعن الكرامة الإنسانية ، وعن حق تقرير المصير، والتحرر، والعدالة، والمساواة.

إذن ، السؤال اليوم "لترامب" ومجرم الحرب "نتنياهو" المطلوب للقضاء الدولي ، من هو المعادي للسامية؟
أهو الذي يطالب بحرية شعبه في وطنه، أم من يَقتل باسم التاريخ والتوراة ، ويُبرر محرقة القرن الحادي والعشرين والإبادة الجماعية بأساطير مختلقة وسرديات مُبتذلة ؟