الراحلُ يوم تأبينه (إلى محمد الحوراني)

لعلّه يأتي،ويدخلُ من فضاءِ البابِ،
يَعْجَبُ أنْ رأى صُوراً له!
هل ماتَ حتى يرفعوا الكلمات؟
ماذا قد يقولُ الأصدقاءُ،
وهل سينفعُه الرثاءُ؟
استدركوا من بعدِ أنْ دفنوهُ،
ثُم استنجدوا بالذكريات..
وها هو الإكليلُ والفيلمُ المُصَّوَّرُ
والرجوعُ إلى الدفاترِ،واجتراحُ المُعجزات..
سيقولُ من أَسَفٍ؛
لماذا تذكرون مَحاسِني،وأنا ابنُ آدمَ،
كنتُ أُسْرِفُ في الملوحةِ مثلما
أورَقتُ ورداً في الصلاة.
أنا لم أمُت إلا مجازاً،إذ رحلتُ..
فكانت الأفواجُ تترى بالألوفِ من الجنوبِ،
إلى السماء..
وكنتُ أرغبُ أن أُقابلَهم لأعرفَ
إنْ تبقّى أيُّ مخلوقٍ بغزّةَ،بعد هذا القتلِ..
لكنّي خجلتُ،
فقد أشاحوا عن جميعِ المَيّتين من الجِهات..
فقلتُ:هل يتدخّلُ اللهُ القديرُ،
ليوقفَ الحربَ الضروسَ..
فقيل:كيف؟وتملكونَ مفاتحَ الدنيا وأعدادَ الغثاءِ..
وتنظرون؟
ترجون من ذُلٍّ،وأنتم صامتون!
والأرضُ تصعدُ بالجياعِ الهائمين،ويُقْتَلون..
"داخو" تُعادُ،وغرفةُ الغازِ المريعةُ،والمعازلُ،واحتشادُ الأبرياء،
وعَسكرُ القتلِ المُدجّجُ،
قادةُ الهولوكستِ قد مدّوا الذراعَ إلى المواقعِ نفسِها،
والرّايخُ يحرقُ جَنَّةَ البسطاءِ والدَّحنونَ،لا يتوقّفون..
والناسُ في هُوِّ النزوحِ يؤَوِّبون،
ويُقْصَفون ويَنزَحون ويَفقِدون صغارَهم وبيوتَهم
أو يُدْفَنون،ويَرحَلون،وهم هنالكَ ثابتون وصامدون،
ويرفعون اسمَ البلادِ على ركامٍ في الفلاةِ،
ويرجعون..على خيامٍ من لهيبٍ أو شجون!
يا كلَّ أصحابي الكرامِ،هنا؛أنا
ما عدتُ أعلمُ أيَّ شيءٍ حولَ ما يجري،
وأنتم تعلمون.
أنا في الترابِ تغضّنت روحي،وأنتم حاضرون.
أنا قد مللتُ النّومَ في لَحدِ الظلامِ،
وكلّكم يَقِظٌ على ما تَشهدون..
لكنني،من بعد ما يجري،أراني
لستُ أعبدُ أيَّ دِينٍ تَعبدون..
لا شيءَ ينبئُ أنكم،يا سادةَ "الفاءِ" العظيمةِ،فاعلون،
ولا البيارقُ والزنابقُ،والصغارُ الطالعون..
لأنَّ ألواناً تعاكسُ بعضَها،
سَتُغسِّلَ الساطورَ من دمِنا الحرامِ،
وتفرشَ الأرضَ القتيلةَ تحتَ مجزرةِ القرونْ..
يا أخوتي!من بَرزخِ العتماتِ ألحظُ أننا اعتدنا المشاهدَ،
لم نحرِّكْ ساكناً،
يا سادتي!من آخِرَ المشوارِ تنكشفُ النهايةُ؛
لن تكونوا،إن ظللتم هكذا،تتصارعون،
على بقايا من فُتاتٍ في مواعينِ السُمومِ
على خُوانٍ من سرابٍ في الصُحون..
وأرى السُراةَ على الموائدِ يأكلون!
***
سأقولُ؛قد سقطت جهنّمُ..
لم تكن تدري بأنَّ الكونَ يشحذُ نَصْلَهُ في العَظْمِ،
قد شافَ الجريمةَ،فاستكانَ،وصفّقوا..
وقفوا على الأبوابِ،أو شهدوا المجازرَ،
وارتضوا هذا الجُنون!
وهل وجدتَ ذريعةً لتموتَ،
حتى لا تكون الشاهدَ المذبوحَ من وَجعِ السكونْ؟
هل عشتَ حقّاً،
أم هجستَ بأننا ظِلٌّ خفيفٌ مرَّ من فوقِ الرصيفِ،
ولم يكن،أصلاً،وجوداً،كي يكون!
هل هذه الدنيا قناطرُ نعتلي حدباتِها العرجاءَ،
كي نمشي على آلِ البياضَ،وليس يدري أيُّنا ينجو..
وماذا قد نرى في الساحقِ الرّنانِ،أعني الموتَ،
حلٌّ للحياةِـ،لتستقيمَ لِمَن يجيئوا بعدَنا،
أم أنه جَرَسٌ يدوّي،ثُمّ ننكرهُ،
ونمضي للجحودِ وللغرورِ،
يقودنا أملٌ سخيفٌ؛
أننا،أبداً،عليها خالدون!
ما فازَ إلا مَن تزوّجَ نجمةً ومضى إليها،
تاركاً سِحرَ المرايا والمواكبِ والحُصون،
ومَن تنبّه أنه طينٌ سيفنى،
ثم تعفوه الرواحلُ في الفيافي،والظعون..
مَن في البلادِ رأى حليبَ البَدْرِ يهمي
فوقَ أثوابِ البيوتِ،
وكلُّ ما فيها أَناسٌ حالِمون؟
ومَن توشَّحَ بالغناءِ بِلَيلِ قريتهِ،
ولوَّحَ للشبابيكِ المُضاءةِ بالعيون؟
ومَن تمرَّغَ في رمالِ البرتقالِ،
وأوقدَ الثلجَ السوادَ،وصاحَ من صمتِ الخؤون؟
ومَن تزيّا بالبحارِ وبالبراكينِ الأليفةِ،
وارتدى الحُزْنَ العتيقَ،
ولم يصل للذَوْبِ أو للصَحوِ،
لم يلقَ النجومَ على مشارفِ كَشْفِهِ الصوفيِّ،
فاحترقت على الصفحاتِ آياتُ الظنون؟
أظنُّ أنكَ لم تجد ما كنتَ تبحثُ فيهِ..
لم تأتِ الطيورُ لغابةِ العصفورِ،
لم تَحكِ الحكايةَ للغصون!
ولم تقابل،في العواصمِ،مَن سيملأُ كأسَكَ الحَرّاقَ،
من بَرَدٍ سيطفئُ موقدَ الأوتارِ،
إنْ ضجّت حَنيناً،أو ترامت من جِمارِ النّايِ
في دمعِ الحَنون.
وأنتَ تُشبهُ أُمَّنَا؛من حيثُ إيقاعُ النداءِ،
وإذ تذوِّبُ روحَها في خبزِها النّاريّ،
أو إن ألقتِ الأمواجَ في الشّالِ المطرّزِ
بالأساطيرِ البريئةِ،
لم تجد مَن يأخذُ الثأرَ الذي تركوه،
أو خلّوا الذي اغتصبَ البلادَ يمورُ فيها،
بل تواروا خلفَ خوفٍ عاجزٍ،
فبقيتَ أنتَ وكلُّ أترابِ المخيّمِ في السجون..
وقطّعوا رأسَ المدائنِ،
أحرقوا الشجرَ الرّضيعَ وطفلَ بيْدرِنا،
وظلّت نكبةُ الأجدادِ تولدُ مِن خيانةِ مَن يخون..
وهدّموا عَرْشَ القبابِ،
وعادت العرباتُ تشوي ما ترمّد في الضواحي،
والدماءُ تفورُ من فَرَسي الحَرون.
هل عشتَ أم كنتَ المرورَ الغاضبَ اللحظيَّ؟
جئتَ،وأنتَ مَن حملَ البتولَ،
وقد تدفّقَ ماؤها النبويُّ،قد غَصَبوا الفراشةَ!
هل وجدتَ من الكلامِ حروفَ نورٍ
كي تردَّ العتمةَ الهوجاءَ،أم
لم تلقَ في لغةِ الحياةِ سوى المَنون؟
نَمْ يا صديقي.نحن مثلُكَ،
لم نَعِشْ إلا لتقتلَنا السُنون.
واصمتْ،ولا تخبِر جموعَ المَيّتين،إذا تساءلَ بعضُهم
عن حالنا..
أو قُلْ؛بأنّ الناسَ ما زالوا بخيرٍ،
مثلُ حيفا والخليلِ،
وكلُّ غزةَ لم تزلْ في زهرةِ الليمونِ،
تجمعُ بحرَها في حُضنِها،
لا شيءَ يحدثُ..غيرَ أنّا مَيّتون.
لكنّ طفلاً من جِنينَ أتَمَّ حفظَ الدَّرْسِ،
يحملُ خافقاً،يعلو على الأسوارِ،
يبعثُ شمسَهُ،حتى تعودَ سواحلُ الشهداءِ
من رفحٍ إلى بلدٍ يموتُ ولا يهون.
سيعودُ بَرْقُ سواحلِ الشهداءِ من رفحٍ إلى بلدٍ
يموتُ ولا يهون..
يا سادتي!
أرجو لكم يوماً سعيداً؛أحمرَ السَحجاتِ،
مبتورَ اليدين،وفاقدَ الأضلاعِ،مطموسَ الجفون..
وإنني أرجو لكم نَوماً هنيئاً،
رغمَ غولِ تتابعِ الأخبارِ..
شكرأ يا أحبّائي،على هذا الحضورِ الوافرِ الضافي..
وأرجو أن تظلّوا سالمينَ،
وكلُّ مذبحةٍ وأنتم طيّبون.