مفهوم المواطنة واستهداف مكونات حضارة المشرق المتنوعة عبر التاريخ

منذ قرون، شكّلت أرض المشرق العربي، من الإسكندرية إلى الموصل مرورا بالقدس، فسيفساء حضارية مبهرة، تمازجت فيها الأديان والثقافات ضمن لوحة إنسانية متكاملة. ومع أن المسيحية انطلقت من فلسطين، فإن حاضر مسيحيي المشرق يُرسم اليوم بالدم والخراب، في ظل تواطئ دولي وتفريط مؤسساتي، وصمت فاضح على الانتهاكات التي تطال الإنسان والمقدسات.
نعم، نحن ضد الإساءة لأي دين أو رمز ديني، وضد استخدام الرموز الدينية لأغراض دعائية رخيصة كما تم في اعلان إحدى الشركات التجارية قبل يومين، والذي نشر باعتقادي نتيجة الجهل بالتاريخ لا بقصد الإساءة المعتمدة والذي عبرت حوله الشركة التجارية عن اسفها واعتذارها. لكن في المقابل، لا نرى نفس "الهبّات" والردود الغاضبة حين تُهان المقدسات في القدس، حين يُعتدى على الكنائس والمساجد، وحين تُنتهك كرامة الإنسان الفلسطيني مسيحياً كان أو مسلماً في أرضه ووطنه الذي لا يملك سواه. أين تلك الأصوات حين تُسلب الأراضي الوقفية من الكنائس التاريخية في القدس؟ أين ذلك الغضب حين تأكل لهيب المحارق الكنائس والمساجد والطفولة في غزة وجنين؟ ولماذا هذا الصمت المُريب حين تكون الجريمة صهيونية، والمجني عليه فلسطينياً؟
التفريط بالمقدسات، قضية "أرض الحمراء" مثالاً
قبل أيام وفي تطور قضائي خطير، رفضت المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس دعوى بطريركية الروم الأرثوذكس لإبطال صفقة تمت عام ٢٠٠٤ لصالح شركة استيطانية يهودية، التي استهدفت أرضا استراتيجية تُعرف بأرض الحمراء” في بلدة سلوان، جنوب المسجد الأقصى. الصفقة ظلت طي الكتمان لأربع سنوات، وبيعت الأرض مقابل مئة ألف دولار فقط، في تفريط فج بثروة روحية ووطنية لا تُقدر بثمن، والتي لم يأتي أحداً بها من وراء البحار الى فلسطين، بل كانت وما زالت هي أرض الأجداد والآباء قد أوقفت للكنيسة زمن التوسع العثماني الإمبراطوري الذي استهدف عروبة بلادنا والمشرق بشكل عام. لم تتحرك البطريركية قانونيا إلا عام ٢٠٢٢، بعد أن استولى المستوطنون على الأرض فعليا. وقد رفضت المحكمة الدعوى بذريعة التقادم، مما فتح الباب أمام تثبيت استيطاني جديد في قلب القُدس، وهو ما تم أيضا في وقت سابق بشأن فندق البتراء في ميدان عُمر بالقُدس الذي استولى المستوطنون عليه بشكل كامل وهم يعملون ليلاً ونهارا اليوم لتغيير ملامحه ليخدم تهويد القدس وتثبيتها عاصمة موحدة لهم، كما هو استيلاء المستوطنون بالنتيجة على دير مار يوحنا، واستهداف الحي الأرمني ايضا والقائمة تطول من أوقاف وممتلكات داخل البلدة القديمة وفي محيط القدس بما يخدم التوسع والحزام الاستيطاني حولها. فماذا تبقى بعد في ظل صمت وتواطئ البعض، رغم محاولات وجهود عدد من الجهات الوطنية ومن بينها اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس والمؤسسات الاجتماعية محدودة العدد التي تعمل من أجل الحفاظ على تمكين المواطن من البقاء والصمود بالقدر المُتاح والمتواضع في ظل تعقيدات مختلفة وصعبة.
هذه ليست مجرد صفقات مشبوهة، بل تجسيد لانهيار أخلاقي وإداري في إدارة ممتلكات واوقاف تشكل جزءًا من هوية مدينة مقدسة للعالم كله وجزء من تراث وطني لشعبنا الفلسطيني صاحب الأرض. وما زاد الطين بلة، هو الموقف السلبي للحكومة اليونانية، التي رغم عدم مسؤوليتها القانونية المباشرة تجاه البطريركية كما يعتقد البعض، وهيمنتها التي تفرضها حين تشاء لمصالحها، تجاهلت مسؤولياتها الأخلاقية والسياسية بحماية الأوقاف الأرثوذكسية، وساهمت فعليا في تسهيل التفريط، في سبيل مصالح استثمارية وعلاقاتها مع إسرائيل في إطار وعود حمايتها من وهم اعتداء جيرانها عليها والتعاون في مسألة استثمارات غاز شرق المتوسط.
بالمقابل ايضا لم يكن التدخل من جانب السلطات السياسية الوطنية التي يتوجب خضوع البطريركية لها بموجب القانون المعمول به قد ارتقى لمستوى تلك المسؤولية الكبيرة من التحديات لحماية الممتلكات والأوقاف، كذلك مواقف رؤساء الكنائس المحلية بالقدس والعالم لحماية مكانة القدس وشعبها الأصلاني.
سابقا لم تتدخل اجهزة الأمن بالشكل المفروض بحكم الشكاوى المرفوعة امام النائب العام في شأن الأوقاف وصفقاتها، كما تدخلت خلال الايام الماضية امام استخدام مشوه لأيقونة دينية تمثل العشاء الأخير للسيد المسيح وتلامذته وهم كنعانيون فلسطينيون قبل خيانته وتسليمه وصلبه بالقُدس، الأمر الذي لا يدركه مصممي الاعلان هؤلاء بالتأكيد نظرا للجهل بالتاريخ الحقيقي لهذه الارض وابناؤها، وهي مسؤولية تتحمل مناهجنا الدراسية وثقافتنا السائدة المسؤولية عنها.
من القدس إلى بغداد ومصر والشام، المسيحية بالمشرق تحت القصف
لا يمكن عزل مأساة المسيحيين في فلسطين والشرق عن السياسات الأمريكية التي ما فتئت ترفع شعارات زائفة عن "الديمقراطية" و"حماية الأقليات"، بينما تستخدمها كأدوات تفكيك جيوسياسي وهندسة اجتماعية جديدة لتحقيق أهدافها. فمنذ غزو العراق عام 2003، تم تفكيك الدولة الوطنية، وإطلاق عنان التطرف والفوضى، ما أدى إلى تهجير مئات آلاف المسيحيين وتدمير كنائسهم ومجتمعاتهم، تماما كما تم في الشام وكل سوريا من استهداف الوجود المسيحي هنالك على ايدي الجماعات التكفيرية الإرهابية التي صنعتها الولايات المتحدة وإسرائيل.
وفي مصر، تعرّض الأقباط الأرثوذكس، الذين يشكلون أقدم وأكبر مكون مسيحي في الشرق الأوسط، لاعتداءات دموية من قبل جماعات تكفيرية، استهدفت الكنائس والمصلين، ما دفع الآلاف منهم للهجرة خارج البلاد بحثاً عن الأمن والأمان. ورغم جهود الدولة المصرية لاحقا لتعزيز الحماية التي حرصت عليه منذ القدم مرورا بتغير أنظمة الحكم، إلا أن الشعور بانعدام الأمان ما زال حاضرا في الوعي الجمعي للمسيحين بالمشرق العربي، في ظل ضعف العدالة أحيانا، والتقصير في التصدي للخطابات التحريضية احيانا اخرى، أو باعتبار القضايا المسيحية وحماية الوجود المسيحي العربي الأصلاني مسألة يجب ان تنأى الدولة الرسمية عن التدخل بها، او لغياب مفهوم المواطنة والانتماء الحقيقي. كما تبرز اليوم قضية دير القديسة كاترينا في سيناء، بوصفه أحد أقدم المعالم المسيحية في العالم، ومكانا يحمل دلالات روحية وتاريخية فريدة والتي حافظت مصر عليه عبر العقود الماضية كإرث إنساني.
القدس، اختبار الحقيقة
القدس ليست مجرد مدينة، هي الميزان الأخلاقي والسياسي للعالم. فحين يُهان فيها الإنسان وحقوقه وتُهدر فيها المقدسات والتعاليم والرموز، ويصمت العالم، تصبح كل الادعاءات عن العدالة والمساواة وحقوق الإنسان مجرد هراء. إن الدفاع عن المقدسات لا يجب أن يكون انتقائياً. لا يمكن إدانة إساءة رمزية او تدخل الأجهزة الأمنية فيها، وبالمقابل السكوت عن إساءة مادية حقيقية قائمة على تسريب الممتلكات الوقفية، والتي تساهم في التطهير العرقي، والمصادرة، والاقتلاع، والتمييز، والاستيطان، والإبادة البطيئة لمواطني وطننا أصحاب الأرض وخاصة بالقدس منها.
لقد بات واضحا أن ما يجري ليس مجرد فوضى ، بل سياسة ممنهجة لتفريغ المشرق العربي من تنوعه التاريخي وتحديدا من عروبته المسيحية المشرقية منذ غزوات الفرنجة وحتى اليوم ، حتى يبقى الصراع وفق العقيدة اليهودية الصهيونية ورؤية المسيحين الصهيونيين هو صراع ما بين الخير ( المسيحية الغربية المستحدثة ) والشر ( الإسلام والمسيحية المشرقية ) وفق اعتقادهم بخزعبلة معركة هارماجادون ، وضرب الروح التعددية التي ميزت حضارته ، لصالح مشاريع استعمارية جديدة تمارسها إسرائيل بدعم غربي وعلى رأسه الإدارة الأمريكية ، تماما كما كان ذلك خلال حملات الفرنجة "الصليبيين " زمن الاستعمار القديم التي استهدفت معالم الوجود العربي المسيحي بالمشرق كما استهدفت مكون حضارته الآخر من التاريخ الإسلامي ووجوده ، فاعتدت بتلك الحملات في حينه على كنيسة القيامة كما على المسجد الأقصى ، وعلى كنيسة القديسة صوفيا "آيا صوفيا" في استانبول التي كانت تسمى "القسطنطينية" لما تمثله بتاريخ ذلك الزمن من مركزا لحضارة الشرق والكنيسة المسيحية المشرقية .
نحو مشروع بديل
إنقاذ أهل المشرق الأصلانيين ومقدساتهم لا يكون بالتمنيات، ولا عبر صمت الكنائس ولا بخطابات الشجب والإدانات الموسمية. بل يتطلب مشروعا وطنياً وعربيا تحررياً، يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة الجامعة والتعددية بالمنطقة وفي فلسطين تحديدا التي تمثل وجودنا الجمعي المشترك المسيحي الإسلامي من خلال مراجعة أسس الثقافة والتعليم. مشروع يواجه مشاريع التهجير والتفتيت والهيمنة بسياسات واقعية وتنموية وديمقراطية وفق نصوص وثيقة إعلان الاستقلال التي أقرها مجلسنا الوطني بدورته بالجزائر سابقا، مشروع وحدوي يواجه ايضا مسمى الديانة الإبراهيمية المبتدعة اليوم لمصالح الاستعمار بالمنطقة.
إن معرفة مكونات مجتمعنا وحضارتنا المشتركة كلٌ منه للآخر أمر في غاية من الأهمية حتى لا تتكرر الإساءات. فالبعض من مجتمعنا بل الاغلبية تجهل التاريخ الحقيقي سوى من بعض الأساطير، ويعتقدون بأن العروبة قد بدأت مع الفتوحات الإسلامية على أهميتها في سياق التاريخ ضد الفرنجة وقبائل الفرس والروم التي لا يمت لها ابناء الوطن المسيحيين بصلة، فهم ليسوا بقايا الحملات الصليبية، بل قاتلوها دفاعا عن تراب الارض جنبا إلى جنب مع مَن وجدَ من المسلمين العرب فيها ، لان المسيحيين هنا وبالمشرق هم كنعانيين هذه الأرض وملحها، هم ليسوا ضيوفا او طوائف ، هم من أبناء غسان وتغلب والقبائل العربية منذ الفي عام شاهدين على قيامة المسيح من جلجلة القدس وعلى مسرى الرسول لاحقاً منها الى السماء، عليهم ما على غيرهم ولهم ما لغيرهم من الشركاء بالوطن والحضارة. لذلك علينا مواجهة الجهل بالتاريخ بمزيد من معرفة حقائقه.
أما في فلسطين، فالمعركة من أجل البقاء المسيحي كما الإسلامي خاصة في القُدس، يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من معركة التحرر الوطني، ومن معركة الدفاع عن هوية الأرض التي باركتها كل الديانات السماوية، بما يتطلب مساءلة الكنائس والمرجعيات الدينية وحتى المدنية السياسية عن دورها في حماية أوقاف القُدس وممتلكاتها، ومحاسبة وقطع الطريق أمام أي تواطئ أو فساد داخلي يسهل ذلك. إذ لا يمكن أن يكون هناك مشرق عربي حُر دون فلسطين حرة مستقلة، ولا قدس حرة دون الحفاظ على طابعها المسيحي الإسلامي في وجه مشروع التهويد والتهجير والإبادة.
إن ما يعكس التحولات السكانية والديموغرافية العميقة التي طرأت على الوجود المسيحي في فلسطين عموما الذي تدنت أرقامه من حوالي 15 ٪ زمن جريمة النكبة الى حدود 1٪ اليوم، وفي القدس بشكل خاص من نسبة 25٪ الى اقل من 1٪ اليوم، هي التحولات التي ترتبط بالسياق السياسي وانعدام الأفق، والاحتلال الاستعماري المستمر، والظروف الاقتصادية والاجتماعية وما ذكرتها من اسباب اخرى في سياق المقال، والتي رافقت نشوء المشروع الصهيوني وتأسيس إسرائيل.