الموت جوعًا حتمية في قطاع غزة وعواقب طويلة الأمد تهدد الأجيال

2025-06-18 09:34:45

آلاء المقيد 

في مشهد إنساني مؤلم يصعب تحمّله أو التصديق بأنه حقيقة وليس دراما تمثيلية، يرقد أطفال على أسرّة المرض بوجوه مصفّرة، وأجساد بدت كـ "هياكل عظمية" تئّن تحت وطأة الحصار الخانق، بينما تنظر الأمهات بحسرة وقلّة حِيلة إلى صغارهن، غير قادرات على استيعاب فكرة أن يموت الإنسان لأنّه "جائع".

في غزة، وما دام الاحتلال قائمًا بغطرسته وإجرامه دون تحرك دولي فعّال، فإن خطر المجاعة سيظّل يلاحق أرواح مئات آلاف من المدنيين مهددةً إياهم بـ "موت بطيء" ومستقبل قاتم لمن يُكتب له النجاة.

وبالنظر إلى السياسة الإسرائيلية المتبّعة منذ بدء العدوان الدموي الواسع غير المسبوق، تعمّد الاحتلال إغلاق المعابر ومنع المساعدات عن الغزيين، بالتوازي مع استهداف جيشه المخابز ومستودعات الطعام والتكيات الخيرية، ليجعلهم يتضورون جوعًا حتى الموت، ضمن جريمة مكتملة الأركان.

ولمعاينة مأساة الأطفال الجوعى، زارت مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" قسم "سوء التغذية" في مستشفى "أصدقاء المريض" في مدينة غزة، والتقت بأمهات عدد من الأطفال الذين أقرّت الفحوصات الطبيّة إصابتهم بـ "سوء تغذية حاد"؛ مع استمرار الإبادة الجماعية منذ 7 أكتوبر 2023.

يظهر جليًا على ملامح هؤلاء الأطفال أعراض سوء التغذية بنسبٍ متفاوتة، أبرزها عيون غائرة، وجوه مصفّرة، نقص شديد في الوزن وبروز الأضلاع، تساقط الشعر، وعدم القدرة على المشي، إضافة لانتفاخ في أنحاء الجسم.

وتقول والدة الطفلة سهام السواركة التي تبلغ من العمر سنة واحدة، إنّها وُلدت بحالة طبيعية ولا تُعاني أي مشاكل صحية، لكنّها لاحظت تردي وضعها بعد ثلاثة شهور من ولادتها، حيث رفضت الرضاعة بنوعيها الطبيعية والصناعية، ما أدى لانخفاض وزنها وهذا يُبقيها في هزال شديد وكثرة النوم.

تنقلت الأم بطفلتها بين مستشفيات غزة، بحثًا عن السبب وأملًا في الرعاية اللازمة، حتى قرَّر الأطباء إخضاعها لفحوصات عاجلة، ليتبيّن إصابتها بـ "سوء تغذية حاد" وفي إثره أُدخلت لقسم المبيت.

على سرير مجاور، تحاول هديل النمس تهدئة طفلتها هلا، ابنة العامين، بشربة ماء وضعتها لها في زجاجة الإرضاع، لكن ما تريده هذه الطفلة لتحصل على حقها الطبيعي في الرعاية أكبر من ذلك بكثير.

هلا تُعاني من مشكلة صحية في الكلى منذ ولادتها- كما تُخبرنا والدتها -وتحتاج كي يستقر وضعها على الأقل، أكلات عديدة لرفع نسبة البوتاسيوم في الدم، لكنها بسبب الحصار الخانق مفقودة في الأسواق، منها الموز والبرتقال، والكبدة.

وصل وزن هذه الطفلة في أحسن الأحوال منذ ولادتها لـ 3 كلغم، لكن في الفترة الأخيرة تراجعت صحتها تراجعاً ملحوظاً حتى انخفض لـ 2 كلغم، ما اضطر لنقلها إلى المستشفى لتزويدها بـ "محاليل الإشباع" وبعض أدوية البوتاسيوم والصوديوم، وهذا لا يتوفر دائمًا.

أما ميّ أبو عرار (7 سنوات) فقد أظهرت الفحوصات الطبيّة إصابتها بنقص حاد في البروتين وانخفاض في ضغط الدم، تسبّب في حدوث انتفاخات في أطرافها وبطنها، وهزال شديد وفقدان للشهية.

ولا تجد والدة مي في المستشفى، سوى المكملات الغذائية (زبدة الفول السوداني) والحليب والبسكويت وبعض المحاليل الدوائية، مؤكدةً أن طفلتها كانت بصحة جيدة قبل الحرب.

لكن بسبب تقنين الإمدادات الغذائية على مدى أشهر الحرب، حتى بلغ الأمر ذروته في آذار/ مارس الفائت بمنع وصولها كاملة إلى القطاع، تأثرت ميّ بالتدريج، وأُصيبت بسوء التغذية.

وتضيف، أن ابنتها حُرمت كبقية الأطفال من الطعام الصحي الذي يلزم لبناء أجسادهم كالفواكه والخضراوات واللحوم الطازجة، قائلة: "بتنا نأكل وجبة في اليوم، وهي عبارة إما عن عدس أو أرز وهذا ساهم في تفاقم سوء وضعها الصحي".

الأطفال أضعف الحلقات

الألم ذاته يعشيه أكثر من 65 ألف طفل مهددون بالموت بسبب سوء التغذية وانعدام الغذاء الكافي، بحسب آخر الإحصاءات الحكومية والحقوقية.

إذ يصل مستشفى "أصدقاء المريض" فقط، أعداد تتفاوت من 200 إلى 300 حالة يوميًا للاشتباه بإصابتهم بمضاعفات سوء التغذية، وفق ما أوردته مختصة التغذية العلاجية سوزان معروف.

وأكدت معروف في مقابلة مع مراسلتنا، أن سوء التغذية انتشر إلى حد كبير في القطاع، حيث زادت نسبة أعداد الزائرين لقسم التغذية في المستشفى لـ 30% بعد إغلاق المعابر في آذار/ مارس، خصوصًا بين الأطفال دون سن الخامسة.

وأوضحت، أن من 15 لـ 20% من إجمالي عدد الحالات التي تزور المستشفى يوميًا يُعانون سوء تغذية متوسط، بينما يُعاني 5% سوء تغذية حاد.

وتتمثل الفحوصات الأولية التي يخضع لها الأطفال في القسم، في قياس الوزن والطول وحجم الذراع، وبناءً عليه يقرر الأطباء إما المبيت، أو تقديم النصائح والمتابعات الميدانية، بحسب حديث معروف.

وجددت التذكير بأن صحة الأطفال شهدت انتكاسة إبّان الحرب، ولم تكن فترة الهدنة القصيرة كافية لاستعادة ما فقدوه من العناصر الغذائية كفيتامينات وبروتينات بسبب منع الغذاء الصحي عنهم.

وقد تُوفي بعضٌ، معظمهم من الأطفال؛ جراء سوء التغذية وتتفاوت التقديرات بشأن عددهم، لكن معطيات وزارة الصحة الأخيرة تشير لنحو 57 حالة وفاة، فضلًا عن ازدياد معدلات الوفاة نتيجة الأمراض المرتبطة بانعدام الغذاء ونقص المواد الأساسية منذ بدء الحرب.

من هؤلاء مواطن (فضّلت عائلته عدم ذكر اسمه) يبلغ من العمر 40 عامًا أُصيب بـ "حساسية القمح" في الموجة السابقة من المجاعة التي امتدت لـسبعة شهور، وتأثّر بها بالدرجة الأولى، مَن بقي في محافظتي غزة وشمالها، إذ استخدمت إسرائيل الجوع سلاحًا ضدهم وتركهم العالم يواجهون مصيرهم دون حماية.

تقول زوجته لمراسلتنا، إنّ أعراض إصابته بـ "حساسية القمح" بدأت تظهر عليه في رمضان 2024 حيث لم يكن يتوفر لدى العائلة سوى "الدقة" لتناولها في وجبتي السحور والإفطار، ومن هذه الأعراض "الهزال، وارتفاع حرارة الجسم، والصداع المستمر، ونزول الدم وانخفاض الوزن".

وبعد أن استنفدت العائلة كل المحاولات لتشخيص حالة ابنها، كشفت إحدى التحاليل في تموز/ يوليو الماضي، أنّه مصاب بـ

"السيلياك" رغم أنه لم يشكّ من المرض قبل ذلك، حتى إنه كان يتناول كل مشتقات القمح قبل الحرب.

ويحتاج المريض هنا حمية غذائية صحية على الأقل لـ 6 شهور، تُخبرنا زوجته أنّه التزم بها لما يزيد على شهرين، لكن الحصار لم يُساعده على الاستمرار في الحمية، عدا عن الارتفاع الجنوني في أسعار المتوفر من الأغذية، فكانت المعلّبات هي الخيار الوحيد أمامه.

وتشير إلى أن صحة زوجها تفاقمت على نحو متسارع، حيث فقد 25 كلغم من وزنه وانخفضت نسبة الدم لديه لـ 9 حتى أودت المجاعة وسوء التغذية بحياته في رمضان الماضي، خاتمةً حديثها: "لم أتخيل أن أفقده فجأة.. عارٌ على الإنسانية جمعاء ما يحدث لنا".

غزة في المرحلة الخامسة

في وقتٍ تتوالى التحذيرات من منظمات الإغاثة الدولية من كارثة إنسانية وشيكة بسبب أزمة الجوع القائمة، يؤكد أحمد الفرا رئيس قسم الأطفال في مستشفى ناصر الطبي، أن أكثر من مليونيّ فلسطيني يعانون انعدامًا شديدًا في الأمن الغذائي.

ويصف الفرا في مقابلة مع مراسلتنا، المستويات التي وصل إليها القطاع بأنها "غير مسبوقة" بعد دخوله المرحلة الخامسة من سوء التغذية، وهي الأشد خطورة وفق التصنيف العالمي، ما يُنذر بوفيات عديدة في حال لم يحدث تدخل فوري.

ويشير إلى أن الفئات الأكثر تضررًا من سوء التغذية، هم الأطفال دون سن العاشرة (600 ألف) والنساء الحوامل (60 ألفًا)، وهذا ما أكدته معطيات منظمة الصحّة العالمية التي أظهرت في منتصف أيار/ مايو أن 90% من النساء الحوامل والمرضعات في غزة يعانين سوء التغذية الحاد.

ويوضّح الفرا أن النساء الحوامل العرضة لسوء التغذية يحملن انعكاساتها لأطفالهن وهم أجنّة في الأرحام، ما يؤدي لأضرار طويلة الأمد أحيانًا، مثل تشوّه الأجنة، والإصابة بالتقزم وفقر الدم، وتأخر في النمو العقلي والجسدي، وأحيانًا وفاة الأطفال عند الولادة.

ويشرح الوضع بقوله: "الطفل في سنوات عمره الأولى إن لم يجد ما يكفيه ويسد رمق والدته لكي ترضعه، ولم يجد البدائل من الحليب الصناعي والأغذية اللازمة سيُعاني مستقبلًا قاتمًا مثل قلّة التركيز، وضعف الإدراك، وعدم تحمّل الجهد، فضلًا عن الميل للوحدة وعدم القدرة على التعبير، ما يعني أننا أمام جيل كامل يُستهدف بقدراته الذهنية والحركية".

في الأثناء، نبّهت الأمم المتحدة أن نحو 71 ألف طفل دون سن الخامسة مهددون بسوء التغذية الحاد في الأشهر الإحدى عشر المقبلة إذا لم تصل مساعدات جديدة وكافية للقطاع، وعلى ضوء ذلك ذكّر الفرا، العالم بأن الوقت ليس في صالح ضحايا هذه الكارثة، مطالبًا بالتحرك الفوري لإنقاذهم.

وتظهر بعض الأبحاث أن هناك ارتباطًا قويًا بين العرضة لسوء التغذية الحاد في مرحلة الطفولة وارتفاع خطر الإصابة في وقت لاحق ببعض الأمراض غير المعدية، مثل السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، وفق تقارير صحفية.

التجويع أسلوب عدواني وجريمة حرب

قانونيًا، تؤكد جميع الأعراف الدولية أن تجويع السكان يُعد سلوكًا عدوانيًا، وجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، ويُحظر على الدول أطراف "اتفاقية جنيف الرابعة" صراحةً استخدام الجوع سلاحًا أو عقابًا.

ومع أن جميع المواثيق الدولية تنصّ على أن الحق في الحصول على الغذاء الكافي هو التزام قانوني، لا تزال إسرائيل تمنع عن سكان غزة جميع الإمدادات الإغاثية بإغلاقها معابر القطاع وتشديد الحصار عليهم، وفق ما أفاد صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني.

ويشدد الحقوقي عبد العاطي في حديثه لمراسلتنا، أن استخدام الجوع سلاحًا هو جريمة حرب وجزء من جريمة الإبادة الجماعية التي يهدف الاحتلال بواسطتها إلى إنهاك السكّان المدنيين وإحداث أذىً بليغ في صحتهم، عدا عن جعل غزة منطقة منكوبة غير صالحة للحياة لدفع سكانها على الهجرة.

ولفت إلى أن هذه الجريمة تتم على مرأى ومسمع من العالم دون أن يُحرك ساكنًا ويُفعّل أدواره الأخلاقية والقانونية لوقف إبادة المدنيين، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية لهم دون قيود مسبقة.

هذا الصمت والعجز الدولي -الذي يصل حد التواطؤ- عن وقف الحرب وحماية السكان رغم مأساتهم العميقة، حتمًا سيؤثر على منظور المواطنين لجدوى المنظومة الدولية وقوانينها في حماية حقوق الإنسان، يقول ضيفنا.

ثم يستدرك: "لكن المشكلة الرئيسة تكمن في غياب القوى الحامية لهذا الأمر، وهذا يجعلنا نؤكد أن الصراع لا يقوم على قاعدة حق وباطل، وإنما بناءً على ميزان قوى مختل لمصلحة الاحتلال".