مؤتمر باريس: المتصيدون الفارغون

2025-06-18 13:40:47

عندما جرى الحديث مع الفرنسيين على موضوع الاعتراف بدولة فلسطين اعتقدوا أن الاعتراف يجب أن يتم في إطار عملية سياسية، وليس في خطوة منفردة كما حصل مع دول أوروبية كإسبانيا وإيرلندا والنرويج وغيرها، حيث إن الاعتراف لم يغير شيئاً على أرض الواقع. وعندما اقتنعوا بأن الاعتراف ضروري، وأن فرنسا ليست كغيرها، وأن اعترافها سيحدث زخماً كبيراً على مستوى أوروبا والعالم، بدؤوا بالتحضير للقاء نيويورك الذي كان من المفترض أن يعقد أمس، بحضور الرئيس ايمانويل ماكرون وولي عهد المملكة السعودية محمد بن سلمان لولا الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران. ولهذا عقد مؤتمر باريس في الثالث عشر من هذا الشهر بحضور وزير الخارجية الفرنسي والرئيس ماكرون شخصياً.
المؤتمر في فرنسا أريد له إسماع صوت المجتمع المدني الفلسطيني والإسرائيلي الداعم للاعتراف بدولة فلسطين، وإنقاذ حل الدولتين وانهاء الصراع في المنطقة. وقد أجمع المؤتمرون على أربع قضايا أساسية: وقف الحرب فوراً، وحل الأزمة الإنسانية في غزة، وتشجيع فرنسا على الاعتراف الآن بدولة فلسطين دون تأخير ودون الربط بأية شروط، والذهاب نحو عملية سياسية جادة لإنهاء الاحتلال وتطبيق حل الدولتين. وبتصوري لا يوجد فلسطيني يخالف هذه الأمور أو يشعر أنها مناقضة للمصلحة الوطنية العليا، ربما باستثناء مجموعة هامشية تغرد خارج السرب.
المفاجئ في التعليق على مؤتمر باريس هو خروج بعض الأشخاص، ممن يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة ويحددون مصير الشعب الفلسطيني، ويقررون نيابة عنه وعن مؤسساته ما هو الصح وما هو الخطأ، بالهجوم على المؤتمر وتلخيصه بعبارة واحدة هي مؤتمر تطبيعي، وأن المشاركين فيه حسبما ظهر في قائمة المتحدثين هم يمثلون «قائمة العار». وتناولت بعض المواقع هذا النشر باعتبار المؤتمر ما هو سوى لقاء فلسطيني – إسرائيلي بين الجلاد والضحية. وهذا لا يحمل مغالطات وتخلفاً سياسياً فقط، بل هو يذهب إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير تحت شعار «المقاطعة».
أولاً، لا بد من التأكيد على حقيقة يبدو أن البعض يتناساها عمداً من خلال أجندات عبثية وما هو أبعد من ذلك، وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد، وليس أي مجموعة أخرى مهما كانت شعاراتها «ثورية» في غير وقتها.  والمنظمة أقرت في مجلسها الوطني في دورته الثالثة عشرة الحوار مع اليهود الإسرائيليين التقدميين الذين يؤدون حقوقنا. وهذا الموقف تطور ولم يتم التراجع عنه، أي لا يوجد أي قرار يخالف هذا التوجه. وبالتالي ما يطالب به بعض «الثوريين» المغامرين يتناقض مع الموقف الوطني الرسمي، إلا إذا كانوا يكفرون بالمرجعية الوطنية الوحيدة.
ثانياً، مؤتمر باريس نظمه قصر الإليزيه (القصر الرئاسي الفرنسي) وجاء لتأكيد دور المجتمع المدني في دعمه للاعتراف وحل الدولتين ووقف الحرب، وهذا موضوع يتجاوز مجرد لقاء فلسطيني – إسرائيلي. وما سمعه الحضور هو تأكيد فرنسي على المضي قدماً في الاعتراف بدولة فلسطين، بالإضافة طبعاً لوقف الحرب ومعاناة الشعب الفلسطيني. فمن الذي يرفض هذا الموقف؟ إنهما إسرائيل والولايات المتحدة. واختيار موعد بدء الحرب ضد إيران في نفس فترة انعقاد مؤتمر باريس وقبيل أيام من انعقاد مؤتمر نيويورك ليس بريئاً، وفيه الكثير من الرغبة بالتخريب على الجهود الفرنسية والسعودية بدفع ملف العملية السياسية في الشرق الأوسط.  والمعارضون والمهاجمون للمؤتمر للأسف هم في خندق بنيامين نتنياهو والرئيس ترامب. فكيف للثوريين أن ينسجموا مع هذا الموقف؟
ثالثاً، إنه لإنجاز سياسي كبير أن يكون جزء من الإسرائيليين يطالبون بالاعتراف الفوري بدولة فلسطين، ويطالبون بوقف الحرب وإنهاء المأساة في غزة ويؤيدون حل الدولتين. وبعضهم يذهب إلى الدعوة لمقاطعة دولة إسرائيل وفرض عقوبات دولية عليها. أليس هؤلاء من يتظاهر في الشيخ جراح ضد طرد الفلسطينيين هناك، ومن يشارك في التظاهرات في نعلين وبلعين والنبي صالح؟ أليسوا هم من يساند المواطنين في مسافر يطا أكثر بما لا يقاس من ثوريي الفيس بوك والتويتر والتيك توك؟
بل هم جزء من المتظاهرين في أوروبا والولايات المتحدة دعماً لغزة. وللعلم يهود الولايات المتحدة وأوروبا الذين غالبيتهم يحملون الجنسيات الإسرائيلية من المشاركين الدائمين والمؤثرين في الاحتجاجات ضد حكومة إسرائيل العنصرية المتطرفة، وجزء منهم في حركات المقاطعة.
  ليس واضحاً ما الذي يريده المتصيدون الفارغون الذين يريدون الظهور على حساب من يقاتل من أجل إحداث تغيير لصالح القضية الوطنية ويستخدمون مصطلح «التطبيع» الذي لم يعد مفهوماً في أي سياق؟ فنتنياهو وحكومته تريح من يناضل ضد التطبيع بأنها لا تريد رؤية أي فلسطيني لا متطرف ولا معتدل وتريد تهجيرهم جميعاً، ومن يخاطر من اليهود الإسرائيليين باللقاء مع الفلسطينيين للحديث عن وقف الحرب وحل الدولتين يعتبرونه خائناً، وقد سنت الحكومة قوانين لشل عمل منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية التي تعمل من أجل حقوق الإنسان وإنهاء الاحتلال.