هل أحسنا التعامل مع جيل الـ Zoom؟

تأملات في مستقبل التعليم عن بُعد
في زمنٍ لم تعد فيه المسافة تُقاس بالكيلومترات والاميال، بل بضغطة او بكبسة زر، شهدت العملية التعليمية تحوّلًا جوهريًا، إذ غدا الصف الدراسي مساحة افتراضية، واللقاء رابطًا رقميًا، والمعلومة مقطعًا مسجّلًا يُعاد بثّه متى شاء المتلقي. لقد جاء التعليم الإلكتروني في بدايته استجابة طارئة لظروف جائحة كورونا ودخل علينا كضيف ثقيل الظل، لكنه ما لبث أن فرض نفسه كخيار استراتيجي عالمي، بل كواقع دائم يُعيد تشكيل مفهوم التعليم التقليدي برمّته.
هذا التحوّل يفرض علينا، كأكاديميين وصنّاع سياسات تربوية، مراجعة جدية لأسئلة جوهرية:
هل يُمكن بناء معرفة متماسكة ومستدامة عبر وسيط افتراضي؟ وهل يكفي الحضور الرقمي لتعويض التفاعل الإنساني المباشر، بكل ما يحمله من إشارات، وسياقات، وعمق وجداني؟
فلسطينيًا، هل استطعنا فعلاً تطوير نموذج وطني أصيل للتعليم عن بُعد، يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات واقعنا السياسي والامني والتكنولوجي؟
المسألة لم تكن ولن تكون مجرد تقديم "محاضرات عن بُعد" أو توفير منصات إلكترونية. نحن أمام لحظة تربوية فارقة تتطلب إعادة النظر في فلسفة التعليم، وفي موقع الطالب ودور المعلّم، وفي طبيعة المحتوى وطرق إيصال المعرفة. فهل يمكن أن نبقى على هامش هذا التحوّل العالمي؟ وهل نملك ترف الإنكار أو التسويف في عصر لا ينتظر أحدًا؟
التعليم الإلكتروني: بين الفُرص والتفكك والتملص
لا شك أن التكنولوجيا قد فتحت آفاقًا غير مسبوقة، حتى في أكثر الأماكن تهميشًا وعزلة. فاليوم، يمكن لطالب يعيش في مخيم لاجئين، أو في إحدى خِرَب فلسطين النائية، أو في بلدة محاصرة ومغلقة بالبوابات الصفراء، أو محاطة بالسدّات الترابية والخنادق، أن يحضر مؤتمرًا دوليًا، أو يشارك في دورة تدريبية متقدمة، بل وحتى يناقش أطروحة ماجستير أو دكتوراه، دون أن يغادر مكانه.
إنها لحظة يتقاطع فيها الإصرار الفلسطيني مع أدوات العصر، ليؤكد مجددًا أن العزلة المفروضة علينا لا يمكن أن تنتصر على إرادة المعرفة، ولا على توق الإنسان الفلسطيني إلى الحياة والمستقبل، حتى وهو يعلّم ويتعلّم وسط الركام.
لكن هذا الوجه المضيء لا يخلو من مناطق ظل: فهو مساحة للهروب والتملص ، غياب التفاعل الإنساني، إغلاق الكاميرات، ضعف المشاركة، وتحوّل الطالب إلى "اسم صامت" على الشاشة. لا ملامح، لا أسئلة، لا حضور فكري، لا انخراط ...
الصف الوجاهي: الحضور الذي لا يُعوَّض
وفي المقابل، يظل التعليم الوجاهي تجربة لا يمكن محاكاتها رقميًا. الصف ليس فقط مكانًا لتلقي المعلومات، بل فضاء للتفاعل والتكوين والانتماء. لحظة التقاء الأعين، أو ضحكة عفوية، أو اعتراض فجائي من أحد الطلبة، قد تصنع فارقًا يتجاوز المقرر كله.
في السياق الفلسطيني، للتعليم الوجاهي بعد وطني إضافي، فهو مساحة للتجذر، للتاريخ، وللمقاومة المعرفية لكسر وتحطيم القيود المفروضة على الحركة، هو نقيض العزلة التي تفرضها الشاشات، ومجال حيّ لبناء الوعي والانتماء. إنه حضور يحمل معنى، لا مجرد تفاعل وظيفي.
نحو نموذج تعليم فلسطيني ذكي ومتماسك
لسنا بحاجة إلى العودة المطلقة للتعليم التقليدي، ولا إلى استسلام أعمى أمام التكنولوجيا. ما نحتاجه اليوم هو نموذج فلسطيني للتعليم المدمج، يجمع بين قوة الحضور الوجاهي، ومرونة الفضاء الرقمي. تعليم يليق بطالب يعيش واقعًا معقدًا، ويتطلع لمستقبل لا يرحم المتأخرين.
لكن أي تحول حقيقي لا يبدأ من الطالب فقط، بل من المعلّم. لا يمكن إنجاح أي تجربة رقمية دون تأهيل الكادر الأكاديمي ليصبح قادرًا على استخدام التكنولوجيا بذكاء، وعلى تصميم بيئة صفية رقمية محفّزة، تفاعلية، وذات معنى. نحن بحاجة إلى تدريب المعلّم على قيادة الصف عن بُعد.
نريد تعليمًا إلكترونيًا لا يُغلق الكاميرات.
تعليمًا يُشجّع على الحضور والتفاعل بكل الوسائل .
نريد منصات تفاعليه، لا تكتفي بالبثّ. محتوى يُثير الأسئلة، لا يُلقّن الإجابات.
نريد أن نصنع فضاءً رقميًا فلسطينيًا نابعًا من بيئتنا.
في فلسطين في غزة : التعليم مشروع تحرر وطني
ليست المشكلة في الأداة، بل في الرؤية. ليست في الشكل، بل في المضمون.
نُعلّم لأننا نؤمن أن المعرفة فعل تحرر، وأن التعليم ليس مجرد وسيلة للترقي المهني، بل هو مشروع إنساني لصناعة الإنسان الفلسطيني القادر على فهم واقعه وتغييره.
وهذا ليس مجرد خطاب نظري، بل واقع أعيشه شخصيا بكل تفاصيله، من خلال تجربتي المباشرة مع طلبة غزة، حيث أُدرّس مساقات القانون عن بُعد، وللفصل الثاني على التوالي. هي تجربة تتجاوز التوصيف الأكاديمي إلى كونها شهادة حية على قدرة التعليم على اختراق الحصار، وبناء جسور من المعرفة وسط الركام، والإيمان بالإنسان رغم كل الانقطاع والخذلان. لم تكن هذه مجرد تجربة تعليمية، بل درسًا في الإرادة والكرامة.
نستخدم أدوات بسيطة، وأحيانًا بدائية، ومع ذلك ننجح. نُناقش، نحلل، ونُنجز المهام في مواعيدها. أتابع طلبتي وهم يتحدّون كل العقبات: بعضهم يقطع كيلومترات بحثًا عن الانترنت، وآخرون يُشاركون من مراكز إيواء وسط الظلام، لكنهم يصرّون على التعلّم وكأنهم في قاعات جامعة عالمية.
يا لها من إرادة حديدية! ويا له من إيمان داخلي بأن العلم أحد وجوه المقاومة والبقاء .
نحتاج إلى تعليم يُعيد للصف معناه، سواء أكان على مقعد خشبي في مدرسة ريفية، أو خلف شاشة مضيئة في غرفة صغيرة، أو في مدرسة مدمرة على أطراف غزة.
لأن الفلسطيني لا يتعلّم ليحصل على شهادة فقط، بل ليثبت أنه موجود … أنه قادر… وأنه، رغم الحصار، يفتح نافذة نحو الحياة.
وعلى رأي المثل لا يموت الذيب ولا يفنوا الغنمات .