كارثة الديون الفلسطينية.. من مديونية الحكومة إلى مديونية الموظف والمواطن هو الضحية

2025-07-01 14:14:35

"الاقتصاد الفلسطيني يواجه كارثة مالية وديونًا متراكمة تهدد بالانهيار البنيوي"، بهذا التحذير الصريح دقّ البنك الدولي ناقوس الخطر مجددًا، كاشفًا هشاشة مالية غير مسبوقة في النظام الفلسطيني. غير أن خلف لغة التقارير تكمن أزمة أكثر قربًا للشارع الفلسطيني: أزمة ديون موظفي القطاع العام الذين وجدوا أنفسهم عالقين في دائرة مفرغة من الرواتب المبتورة والقروض المتراكمة، في ظل غياب رؤية اقتصادية متماسكة.
أولًا: أكثر من 135 ألف موظف على حافة الانهيار
يبلغ عدد موظفي القطاع العام في فلسطين ما بين 135 إلى 140 ألف موظف، موزعين بين مدنيين في الوزارات والمؤسسات الرسمية، وعسكريين في الأجهزة الأمنية. ويُشكّل هؤلاء الموظفون شريحة اجتماعية حيوية، لا تمثل فقط القوة العاملة الحكومية، بل تمثل المحرك الأساسي للطلب المحلي في السوق الفلسطينية.
منذ أكثر من عامين، يتقاضى هؤلاء الموظفون رواتب جزئية وغير منتظمة، تتراوح بين 50% إلى 80% من الراتب الأصلي. هذه الأزمة المستمرة دفعت الآلاف منهم للجوء إلى البنوك لتغطية نفقاتهم اليومية، وتحول الراتب من أداة معيشة إلى مجرد قسط شهري لخدمة الدين.
ثانيًا: من مديونية الدولة إلى مديونية الموظف
تشير التقديرات إلى أن ما بين 70% إلى 80% من موظفي القطاع العام لديهم التزامات مالية مباشرة تجاه البنوك، تشمل القروض الشخصية والإسكان وبطاقات الائتمان والسحب على المكشوف. ومن أصل نحو 135 ألف موظف، يُقدر أن أكثر من 100 ألف موظف لديهم قروض نشطة تُقتطع أقساطها شهريًا من الرواتب، والتي غالبًا لا تتجاوز نصف الراتب المستحق.
وتُقدَّر إجمالي ديون الموظفين للبنوك بأكثر من 1.8 مليار دولار (أي ما يعادل نحو 6.5 مليار شيكل).
 وفي المقابل، يُقدّر أن وزارة المالية مدينة لهؤلاء الموظفين بأكثر من 7.5 إلى 8 مليارات شيكل كرواتب مستحقة غير مدفوعة على مدار السنوات الثلاث الماضية، نتيجة لسياسة دفع الرواتب المجتزأة منذ 2021.
ويُذكر في هذا السياق أن الحكومة الفلسطينية نفسها اقترضت من البنوك المحلية ما يقارب 9 مليارات شيكل على مدى الأعوام الأخيرة، لتغطية النفقات الجارية والعجز المالي المزمن، ما يجعل القطاع المصرفي اليوم عالقًا بين مديونية مزدوجة: ديون على الحكومة، وديون على موظفيها.
ثالثًا: آثار ممتدة على الاقتصاد والمجتمع
لا تقف آثار هذه الأزمة عند حدود الموظف الفرد، بل تتعداها إلى الاقتصاد الكلي والمجتمع الفلسطيني برمّته:
● تراجع القوة الشرائية أدى إلى ركود في السوق المحلية، وانخفاض في مبيعات القطاعات التجارية والخدماتية، ما دفع كثيرًا من المشاريع الصغيرة إلى الإغلاق.
● القطاع الخاص يعاني تباطؤًا حادًا نتيجة تآكل الطلب المحلي، وهو ما يتسبب في تقليص الوظائف وتجميد الاستثمار.
● الاقتصاد غير الرسمي يتوسع مع تزايد الاقتراض من خارج النظام المصرفي، وغياب الرقابة، ما يُضعف من قدرة الحكومة على إدارة الموارد المالية.
● تصاعد التوتر الاجتماعي والنفسي بين الموظفين نتيجة الضغوط المالية، ما ينعكس على العلاقات الأسرية، ومستوى الثقة بالمؤسسات العامة.
رابعًا: المطلوب – إنقاذ لا ترحيل للأزمة
إن استمرار الأزمة دون حلول جذرية سيؤدي إلى تفكك اقتصادي واجتماعي تدريجي. ما نحتاجه اليوم هو خطة إنقاذ وطنية متكاملة لا تقتصر على ضخ الأموال، بل تشمل إصلاحات هيكلية عميقة:
● جدولة ديون الموظفين بالتنسيق مع البنوك، مع تجميد الفوائد لفترة انتقالية، وضمان ألا يتجاوز الاقتطاع من الراتب نسبة معقولة تتيح العيش الكريم.
● إعادة صرف الرواتب كاملة بآلية شفافة ومستقرة، تضمن انتظام التدفقات المالية وتمنع تراكم المتأخرات.
● مراجعة هيكل الإنفاق العام، وخفض النفقات غير الضرورية، وتوجيه الموارد نحو الخدمات الأساسية والإنتاجية.
● الضغط السياسي لوقف الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة التي تستنزف جزءًا كبيرًا من الإيرادات العامة دون مسوغ قانوني.
● تبني سياسة "إحلال الواردات" كأداة لتعزيز الإنتاج المحلي، عبر دعم الصناعات الوطنية، وتشجيع الزراعة والغذاء المحلي، وتوجيه المشتريات الحكومية نحو المنتج الفلسطيني، بما يعزز الاكتفاء الذاتي ويقلل من الاعتماد على العملات الأجنبية.
● توسيع فرص العمل في الاقتصاد الرقمي والريادي، وتمكين الشباب من خلق فرص ذاتية مستدامة بعيدًا عن التوظيف الحكومي التقليدي.
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد أن المساعدات الخارجية التي تتلقاها الحكومة الفلسطينية من الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، رغم أهميتها في توفير سيولة مؤقتة، لم تعد كافية ولا قادرة على معالجة جذور الأزمة. فهي تغطي بالكاد بعض الالتزامات قصيرة الأجل، لكنها لا تُغيّر من حقيقة أن المشكلة بنيوية داخلية تتطلب إصلاحًا عميقًا في إدارة المال العام والسياسات الاقتصادية.
خاتمة: المواطن لا يجب أن يكون كبش الفداء
إن استمرار تحميل المواطن – وبخاصة موظف القطاع العام – تبعات أزمة مالية لم يشارك في صناعتها، هو أمر غير عادل وغير مستدام. المطلوب إعادة توزيع الأعباء بشكل أكثر إنصافًا، والاعتراف بأن إصلاح الاقتصاد يبدأ من حماية من يقف في واجهته كل يوم.