إلى أين يهرب ترامب، وإلى متى يتهرّب نتنياهو؟

في العالم الذي نعرفه لا يوجد مَن يعتقد بأن الولايات المتحدة الأميركية ودولة الاحتلال قد انتصرتا على إيران بالقدر «المطلق والمبهر والتاريخي» الذي يتحدّثان عنه معاً، وبصورةٍ متزامنة ومتطابقة، أيضاً.
بل نحن أمام معادلة جديدة مفادها أن إيران قد خرجت أقوى ممّا كانت عليه قبل الحرب عليها.
تبيّن الآن أنّ الخبراء والمختصّين يتحدثون عن إعاقة أو تعطيل للبرنامج النووي الإيراني لعدّة أشهر فقط، وبعد تعليق علاقة إيران بالوكالة الدولية للطاقة الذرية يمكنها العمل على برامج موازية في آلاف المواقع والأشكال والترتيبات، من دون الحاجة إلى منشآت المفاعلات النووية التي كانت معروفة لتلك الوكالة، وكانت تحت رقابتهم المباشرة، والأحرى أن يُقال تحت التجسّس المباشر عليها، هذا إذا كانت هذه البرامج الموازية ضرورية فعلاً، أو أنها موجودة سلفاً.
أما الصواريخ فقد تبيّن أنها فاعلة ودقيقة ومدمّرة، وتوازي في استباحة الأجواء الإسرائيلية ما حقّقته الطائرات الحربية الإسرائيلية من خلال هذه الحرب من استباحة للأجواء الإيرانية.
وإذا كانت الدولة العبرية قادرة على إعادة ترميم دفاعاتها الجوية بعد أن ثبت أنها ليست بالنجاعة التي تحمي مدنها ومؤسّساتها الحسّاسة، وتجمّعاتها وقواعدها العسكرية، ولا حتى بنيتها التحتية، فإن إيران تمتلك نفس الفرصة في إعادة بناء دفاعاتها الجوية بصورة أكبر ممّا كانت عليه قبل الحرب.
كما أن التدمير المنهجي المنظّم لكل ما بناه «الغرب» من بنية استخبارية في إيران، وتهاوي هذه البنية يعتبر خسارة حسّاسة وخاصة، وقد تكون حاسمة في أي حرب قادمة.
الفشل في إسقاط النظام، والفشل في تدمير البرنامج النووي، والفشل في تدمير القدرات والمقدّرات الصاروخية، وخسارة بنية التخريب الداخلي الأمنية والاستخبارية والذي يسمّيه ترامب الإنجاز العظيم والمُبهر، ويسمّيه نتنياهو «الانتصار التاريخي»، هو إفلاس سياسي، وهو عنوان أكبر إخفاق أميركي إسرائيلي في كامل هذه الحرب.
لا أحد في هذا العالم يصدقهما معاً سوى بعض المهووسين العرب والمسلمين من المصابين بأمراض مزمنة من الناحية المذهبية والطائفية، بعد أن ثبت أن الدوائر المقرّبة جدّاً منهما أصبحت تشكك في كل الحكاية. وأصبح من المرجّح في غضون أسابيع قليلة فقط الكشف عن فضائح مدوّية عن هذا «النصر» المزعوم.
من المؤكّد أن إيران قد تكبّدت خسائر فادحة وكبيرة كما هو حال دولة الاحتلال، أما «الانتصار المبهر والتاريخي» فهو ليس سوى حالة إعلامية مفبركة على عجل، خيبة أمل لم تُصب بها دولة الاحتلال في تاريخها كلّه، وهي صدمة لا تقلّ في ما مثّلته الحرب على إيران من «فرصة ضائعة» عن باقي الإخفاقات والخيبات بما فيها صدمة «الطوفان» والإخفاق الإسرائيلي المدوّي حياله.
أمام الإدارة الأميركية التي تعرف حق المعرفة ما جرى في هذه الحرب ثلاث طرق من الناحية النظرية للتعامل مع الواقع بعد هذه الحرب، في حين أنها لا تملك إلّا طريقاً واحدة من الناحية العملية.
لا يوجد بالمقابل أمام دولة الاحتلال من طرق بديلة أو موازية بعد هذه الحرب، والتي ثبت من خلالها وتثبّت وتأكّد أنها ــ أي دولة الاحتلال ــ ليست مستقلّة إلى الدرجة التي تؤهّلها لذلك، وهي بسبب ذلك بالذات لا تملك في الواقع إلّا السير خلف ترامب حتى ولو أنكر الجاذبية الأرضية.
انتهت إلى غير رجعة كل «عنفصات» نتنياهو التي حاول أن يروّج لها طوال فترة الحرب عن «استقلال» قرار دولة الاحتلال النابع من مصلحتها العليا، ومن «اعتباراتها» الأمنية الخاصة، وكما تراها وتحدّدها هي وليس غيرها..! لهذا فإننا نتحدث عن الخيارات الأميركية كما يراها ترامب وأغلبية إدارته، وليس أمام الأخيرة إلّا التسليم بها.
الخيار الأوّل هو العودة إلى الحرب ــ دائماً من الناحية النظرية ــ وهو أمر مستبعد لسببين كبيرين:
سيطرح على إدارة ترامب السؤال التالي: لماذا الحرب طالما تمّ تدمير البرنامج النووي الإيراني بصورة «مبهرة ونهائية لا رجعة عنها»؟ أما إذا كان سبب الحرب هو العودة لمحاولة إسقاط النظام، كما يمكن أن يدّعي ترامب، فالسؤال الذي سيطرح عليه: كيف سيتمّ إسقاط النظام بعد أن أصبح متماسكاً داخلياً أكثر من أي وقتٍ مضى، وبعد أن تمّ تدمير الجزء الأكبر من البنية الأمنية والاستخبارية التي بنتها دولة الاحتلال، و»الغرب» كلّه، على مدى أكثر من 3 عقود، وبعد أن أصبحت إيران تمتلك كل هذه القوة والقدرات، وأصبح لديها كل هذه التحالفات الدولية، وبعد أن ثبت أنها تمتلك من الأوراق ــ التي لم تلعبها بعد ــ بما يمكن أن يهدّد طرق التجارة الدولية، وكلّ خطوط إمدادات النفط والغاز، التي تمرّ من منطقة الخليج إلى كافة أرجاء المعمورة.
وحتى لو أن الجنون قد بلغ بهذه الإدارة نحو استخدام السلاح النووي، فمن أين سيضمن ترامب عدم الذهاب إلى ردود نووية مقابلة، وكيف له أن يضمن عدم تحوّل الحرب إلى حرب إقليمية شاملة، وإلى حرب عالمية لا تبقي ولا تذر؟
من كل هذه الزوايا فإن هذا الخيار النظري أصلاً يصبح مستبعداً إلى درجة اليقين الراسخ.
بقي أمام ترامب خيار الموافقة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من دون شروطه التي أحرقها وأعلنها بصورة تبجُّحية متعجرفة، وهذه مسألة مستبعدة كما هو خيار الحرب، وذلك لأن الموافقة على هكذا خيار، هو موافقة على إذعان، ومؤشّر على هزيمة معلنة، ومكتملة الأركان. ولهذا فإن هذا الخيار ــ النظري أصلاً ــ يصبح مستحيلاً على شخص مثل ترامب، وعلى دولة بقوة وهيبة أميركا.
بقي أمام ترامب التغطية على فشله هو وزميله في القتل والإجرام، وقرينه في ادّعاء الانتصارات «المذهلة» الذهاب إلى «تسويات» جزئية، باعتبار أن تلك الانتصارات باتت «تسمح» من موقع الاقتدار والانتصار الإقدام عليها!
وبدلاً من أن يوجّه ترامب أمراً نافذاً بوقف إطلاق النار في غزة خلال ساعات، ها هو يصوّر الأمر وكأنه حصيلة توافق تام، ويُظهر نتنياهو وكأنه سيقبل بهذا الوقف مقابل إغراءات كثيرة، منها الضغط على القضاء الإسرائيلي لإلغاء محاكمات نتنياهو، ومنها تحضير الدمية الحاكمة في دمشق لقبول الدخول في الوحل «التطبيعي» مقابل إمكانية رفع العقوبات، وبتنازل ــ غير رسمي ومعلن حتى الآن ــ عن الجولان السوري المحتل، والتوصل إلى صيغة لمعاهدة سلام تحت مسمّى «إنهاء حالة العداء»، بترتيبات أمنية تسمح بالسيطرة الأمنية المباشرة على ثلاث مناطق سورية.
مقابل ذلك، سيتم ربط وقف إطلاق النار في غزّة بالحديث المبهَم عن حل سياسي شامل للإقليم مقابل موافقة الإدارة الأميركية العلنية، والاعتراف المباشر منها بضم الكتل الاستيطانية، والأغوار، وبعض المناطق «الحيوية» من المنطقة (ج)، لكي يتم لاحقاً ترتيب ما تبقّى أو يتبقّى من الضفة الغربية بعد سلخ كامل منطقة «القدس الكبرى» والكتل الاستيطانية والأغوار، وعلى أن يتم ترتيب الحكم في القطاع بعد مرحلة من «الحكم العربي والإسلامي» له بهدف «إنهاء» حكم حركة حماس.
باختصار يريد ترامب، ومن خلفه نتنياهو أن يصوّرا للعالم بأنّ «الحلّ» بهذه الصورة بات ممكناً بعد الانتصار «المذهل» على إيران، وأنّ الحلقة اللبنانية ستلحق بعد حلقة غزّة، وبعد ترسيم تنازل أحمد الشرع عن الجولان السوري المحتل تحت مسمّى «إنهاء حالة العداء».
كل ما سيتم ليس سوى إعلانات إعلامية، ليس لها أي رصيد، وليس لها أية إمكانيات بالتحقق، وما هي في الواقع سوى ملهاة سياسية مؤقّتة للتغطية على الفشل في حربهما على إيران، وعلى الفشل في تحقيق أهداف الحرب في غزّة ولبنان.
لا ترامب، ولا نتنياهو في وضع يمكّنهما من الذهاب إلى تسويات في غزّة، ولا في لبنان، بسبب غياب القدرة على فرض شروطهما معاً.
ولا هما قادران على استمرار الحرب الهمجية والإبادية، لا في غزة، ولا حتى في لبنان، ولا هما قادران على التسوية الإقليمية، لأن التسوية بالشروط التي تلبّي الحلول العادلة أو المتوازنة هي بمثابة هزيمة لهما، ولا هما قادران على فرض تسوية بشروط الهيمنة والإخضاع.
كل شيء مؤقّت، انتقالي، مجرّد تمويه على فشل لا يمكن الاعتراف به، وعلى انتصار ليس من وقائع تدعمه على الأرض، وليس له رصيد خارج نطاق الصورة الإعلامية المفبركة على عجل. لم يدخل الإقليم بعد في مرحلة التسويات الكبيرة، مع أن معادلات الصراع تتغيّر كل يوم.
من ينتصر ويفرض شروطه في هذا الإقليم سيكرّس مكانته ودوره في العالم الجديد القائم على نهاية عصر الهيمنة «الغربية»، وبداية تحوّل البلطجة والإجرام إلى كلفة سياسية وأخلاقية، واقتصادية وعسكرية ترتفع فواتيرها بالحروب، ولكنها لا تتوقف عن الارتفاع من دونها، أيضاً.
لا خوف من التسويات المؤقّتة، لأن المهم هو إرادة المواجهة، وإغلاق الطريق على مخطّطات العودة إلى الحروب الداخلية، بعد أن فشلوا في حروبهم المباشرة، وإرادة المواجهة هي التي ستعكس الصورة، بحيث ترتدّ الحروب الداخلية إليهم حتى يعجزوا عن شنّ الحروب الخارجية مرّةً وإلى الأبد.
في المقال القادم سنتعرّض للوضع الفلسطيني بكلّ تفاصيله بعد هذه الحرب التي تشارف على نهايتها.