من الفصائل إلى الفوضى: تشظي الهوية الفلسطينية في زمن الاجتثاث

مقدمة: جغرافيا تنهار على رؤوس أهلها
غزة اليوم ليست فقط جبهة مشتعلة، ولا مجرد مسرح للدمار، بل مختبر فسيح لإعادة تدوير المعنى الفلسطيني برمّته. تحت الركام لا تُدفن الأجساد وحدها، بل تُوارى شرعياتٌ سياسية، وسردياتٌ وطنية أُنهكت من فرط الترديد، دون أن تمسّ جوهر الحياة. الحرب هنا ليست حدثًا طارئًا، بل لحظة قطيعة وجودية تُعيد تشكيل علاقة الفلسطيني مع نفسه، ومع مركز القوة، ومع الرمز.
كل ما كان يبدو ثابتًا في الوعي الجمعي، يهتز الآن على إيقاع القنابل الذكية والخذلان الأكثر غباءً. وعلى هذه الأرض المبللة بالدم، ينبت كائن فلسطيني جديد: لا يؤمن بالأيقونات، ولا ينتظر منقذًا، بل يجرّ نفسه على الأسفلت ليصنع مصيره بيدين مجرّحتين.
---
1. انكسار التماثيل: حين تسقط السلطة قبل أن تسقط القذيفة
الفصائل الكبرى، التي طالما تصدّرت المشهد كشواهد على الثبات، باتت اليوم تُشبه أصنامًا فقدت أرواحها، لكنها ما زالت تصرخ من فرط العجز. كل خطاب "ممانع" يُلقى على وقع المجازر، يتحول في وعي الناس من بيان سياسي إلى نشرة طقس لغيمة لم تهطل قطرةً واحدة على أرضهم.
وفي الفراغ المدوّي لهذا الانهيار، تندفع قوى لا تحمل أي شعارات، ولا تعرف لغة الأيديولوجيا، لكنها تُمارس وظيفة الدولة على نحو مروّع في بساطته:
شبابٌ يُعيدون تشكيل خطوط الإمداد من العدم.
نساءٌ يتحوّلن إلى غرف عمليات في المطابخ.
مرضى يُنقذون مرضى آخرين بلا مستشفيات ولا بروتوكولات.
هؤلاء لم يصلوا إلى السلطة عبر بوابة الشرعية، بل عبر باب النجاة. إنهم لا يسعون للحكم، لكنهم يحكمون من حيث لا يدرون، لأن الفاعلية في زمن الانهيار تصير وحدها سلطة.
---
2. سطوة الرغيف وسقوط الميثولوجيا
حين يُصبح الخبز أثمن من الرصاصة، تفقد الميثولوجيا الثورية كل بريقها. البندقية، التي طالما مثّلت العمود الفقري للشرعية السياسية، باتت تُواجه سؤالًا مرعبًا: ماذا لو لم يعد أحدٌ يرى فيها خلاصًا؟ ماذا لو أصبح صوت الماء أقدس من صوت الرصاص؟
الشرعية في غزة اليوم لا تُمنح لمن "يصمد"، بل لمن "يبقيك حيًّا". الجماهير التي كانت تصطف تحت الرايات، باتت تصطف أمام الخبّاز، دون أن تسأل عن الانتماء السياسي. ولأول مرة، يُصبح من يُطعِم، لا من يُقاتل، هو من يُلهم.
---
3. الجغرافيا تعيد ترتيب ذاتها.. لا بخرائط، بل بأشلاء
غزة لم تعد جغرافيا سياسية، بل أصبحت طبوغرافيا للدم. كل منطقة تُقصف، تُعاد كتابتها ضمن دفتر النفوذ الجديد. لا حدود هنا تُرسم بالقلم، بل تُنحت بالمدفع:
المستودع الطبي يتحول إلى وزارة صحة شعبية.
المدرسة المُهدّمة تتحوّل إلى مركز إيواء بسلطة أفقية.
الهاتف المحمول يُدير ما فشلت فيه المجالس التنفيذية.
حتى المجموعات الأهلية، تلك التي بدأت كاستجابات تلقائية للفوضى، سرعان ما اكتسبت سلطة موازية، تتجاوز في بعض الأحيان سطوة التنظيمات التاريخية. لم يعد السؤال: "من الممثل الشرعي؟" بل صار: "من يُمكِّنك من الحياة لحظةً أخرى؟"
---
4. المخاض المُرّ: ولادة فلسطين الهامشية
بعيدًا عن عدسات الإعلام وصراخ البيانات، تتشكّل طبقة جديدة من الفاعلين الاجتماعيين: لا يشبهون المقاوم الثوري، ولا السياسي النخبوي، بل ينتمون إلى ظِلِّ الوطن. إنهم أبناء المخيم، وعمال الطوارئ، والمُعاقون الذين نظموا طوابير الخبز، والأرامل اللواتي نسجن خريطة النزوح من خيوط الدخان.
هذه القوى لا تطالب بالتمثيل السياسي.. لكنها تُمثِّل الواقع على الأرض، وهي بهذا تفرض نمطًا من "الشرعية الفعلية" التي قد تقلب الطاولة على مراكز القوة التقليدية. إننا نشهد، دون إعلان، بدايات فلسطين أخرى: ليست تلك التي في الشعارات، بل التي تُكتب على الجدران المهدّمة بالدم.
---
خاتمة: الخراب لا ينهي المرحلة.. بل يلد ما بعدها
حين ينتهي الدوي، ويخفت الصراخ، وتخرج اللجان الدولية لتكتب تقاريرها، سيُطرح سؤالٌ لم يعد يمكن تأجيله:
من يحكم غزة؟
ولن يكون الجواب اسم فصيل أو زعيم، بل مزيجًا فوضويًا من شبكاتٍ غير رسمية، ومراكز قوى غير مرئية، وناسٍ عاديين صنعوا الاستثناء من داخل الجحيم.
في تلك اللحظة، لن تكون فلسطين كما كانت. ربما ستكون أكثر هشاشة، لكن أيضًا أكثر صدقًا. لأنها حين تتخلص من إرث القوالب، قد تبدأ برسم ملامحها بيدين داميتين، لكن حرتين.
> "في المرة القادمة التي تُقرع فيها طبول الحرب، لن يُسأل الفلسطينيون عن الانتصار، بل: أي فلسطين خرجت من تحت الأنقاض؟"