الصفقة الانتقالية: بين حسابات الإقليم ومتطلبات حماية الكيانية الفلسطينية

ترامب وفرض وقف إطلاق النار على نتنياهو
بات من المؤكد أن أيامًا قليلة، قد تزيد أو تنقص، تفصلنا عن الإعلان عن اتفاق انتقالي لوقف مؤقت لإطلاق النار. فترامب، الذي يقول إنه حمى إسرائيل أو حتى أنقذها من حربها مع إيران، لن يسمح لنتنياهو بالاستمرار في فرض أجندته السياسية الخاصة على ما يعتقد ترامب أنها فرصته لإعادة هندسة المنطقة في سياق الصراع الإقليمي والدولي عليها. كما أن المطالب أو التعديلات التي قدّمتها المقاومة على ورقة إطار الاتفاق تُعتبر، من وجهة نظر الوسطاء بما فيهم واشنطن، لا تُخل بجوهر الاتفاق الذي بات مصلحة إقليمية ودولية شاملة.
اللعبة الإسرائيلية في مفاوضات ما بعد الصفقة
نتنياهو، الذي يرى نفسه شريكًا في الرؤية الاستراتيجية لترامب تجاه المنطقة، لن يكون قادرًا على التلاعب مع ترامب فيما يتعلق بالحاجة إلى إعلان عاجل لوقف إطلاق النار. فحكومة الاحتلال لم ترفض التعديلات الفلسطينية، وإن زعمت أنها غير مقبولة. وهي ستسعى، خلال المفاوضات الجارية أو بعد الإعلان عن الصفقة، إلى فرض وقائع تخدم من وجهة نظرها ما تسعى إلى تحقيقه. ولعل النقطة المركزية التي تركّز عليها، تحت دعاوى خبيثة، هي ما تسميه “إيجاد منطقة إنسانية لسكان القطاع لحين إعمار بيوتهم”. وقد أعلنت نيتها أن تُموضع هذه المنطقة في الجنوب، ولذلك تصر على الاحتفاظ بمحوري موراج وفيلادلفيا لإطباق السيطرة على السكان داخلها. فبذريعة تأمين الدواء والغذاء، تسعى إسرائيل إلى الاستمرار في التحكم بذلك عبر السيطرة على هذا المحور، دون أن تتنازل عن خيارها الاستراتيجي، ليس فقط بعزل حماس وحكمها، بل بتنفيذ ما تسميه “الهجرة الطوعية أو الآمنة” من هذا السجن الكبير الذي تسعى إلى فرضه، وقد يمتد لسنوات.
من الإبادة إلى التهجير وتفكيك الوطن
في هذا السياق، قد توافق إسرائيل خلال مفاوضات الستين يومًا على وقف الحرب، كما يريد ترامب، ولكن ليس دون مقابل؛ كنزع سلاح المقاومة، وإبعاد، ولو رمزي، لقادتها. وهي بذلك ستعتبر أنها حققت أهدافها من حرب الإبادة التي استمرت ما يقارب العامين. ولكن أيضًا، ولضمان تحقيق ذلك على الأرض، تريد أن تتحكم في كل صغيرة وكبيرة، عبر إحكام سيطرتها على المعابر، للتحكم في كميات الإغاثة ومقادير مواد الإعمار، وفقًا لما تخطط له من تنفيذ أقصى ما تستطيع من تهجير. والأهم بالنسبة لها، هو عدم السماح بتوحيد شطري الوطن، الذي إن تحقق فسيكون بمثابة الضربة الاستراتيجية لمشروع نتنياهو في تفكيك الكيانية الفلسطينية ومنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على حدود عام 1967.
غزة والاستحقاق الوطني: ما بعد الإبادة
وقف إطلاق النار، تمهيدًا لوقف الإبادة الجماعية اليومية، هو حاجة وطنية فلسطينية، ليس فقط لأبناء غزة الذين يُذبحون يوميًا قتلًا وتجويعًا، بل لكل وطني فلسطيني. ببساطة لأن الإبادة في غزة جزء لا يتجزأ من خطة جهنمية لتصفية القضية الفلسطينية بأبعادها كافة. وعلينا أن ندرك أن الحرب الحقيقية ستبدأ بعد وقف إطلاق النار، في محاولة من حكومة تل أبيب لتصميم مرحلة ما تسميه “اليوم التالي” بما يخدم استراتيجيتها لهندسة الحالة الفلسطينية، بحيث تتساوق مع هذه الهندسة أو ،على الأقل، تكون غير قادرة على مواجهتها. وأول ما تسعى إليه هو ما يُتداول بشأن تشكيل لجنة أو هيئة خاصة بغزة تكون معزولة عن الكيانية الوطنية؛ أولًا للاستفراد بها، وثانيًا لتطويعها، والأهم خلق ديناميكيات تكرّس واقعيًا فصل القطاع، المثقل بالدم والدمار، عن الاستحقاقات الوطنية التي تتطلب استنهاض كامل طاقات الفلسطينيين وكل من وقف معهم ضد الإبادة التي تعرضوا لها، وقد تستمر بأشكال مختلفة.
المهمة العاجلة: حكومة وفاق وطني وفق إعلان بكين
الاستخلاص الأهم، وفق ملامح طبيعة ومضمون الخطة والأطماع التوسعية لحكومة تل أبيب، هو أن الأولوية التي يجب التمسك بها تكمن في تسييج الكيانية الوطنية من محاولات التفتيت. وما يتطلبه ذلك، ومنذ الآن، وليس انتظارًا لما يُخطط لنا في واشنطن وتل أبيب، هو الإعلان الفوري عن تفعيل الإطار القيادي المؤقت، وتشكيل حكومة وفاق وطني غير فصائلية… حكومة وطنية من حيث دورها المركزي في المسؤولية عن إدارة الضفة والقطاع، وهو ما تم الإجماع عليه في إعلان بكين. فهذا هو الإصلاح الجوهري، سياسيًا ووطنيًا، الذي تحتاجه القضية الفلسطينية، لمواجهة المهمات والمخاطر الكبرى الماثلة أمامها، وفق أولويات باتت تحظى بإجماع دولي، شعبي ورسمي، والمتمثلة بإنقاذ حياة الناس في غزة، وإغاثتهم، وإعادة إعمار بيوتهم ومصادر حياتهم وقدرتهم على البقاء. وذلك بالتوازي مع مهمات تعزيز قدرة الناس على الصمود والبقاء في كافة أرجاء الضفة الغربية، بما في ذلك القدس المحتلة، التي تتعرض لعمليات ضم يومي واسعة النطاق. بما يعنيه ذلك من ضرورة استثمار هذه المرحلة الانتقالية لإعادة بناء وتمتين أسس النظام السياسي الفلسطيني، كي لا يتمكن حكام تل أبيب وواشنطن من تجاوز الحقوق الوطنية في العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني، والتي من دونها لا يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة برمتها.