بلدية البيرة تطلق "أحواش البيرة" لإحياء قلب المدينة القديمة

تجري بلدية البيرة تحضيرات مكثفة لإطلاق السوق الأسبوعي الجديد تحت اسم "أحواش البيرة"، والمقرر افتتاحه يوم الجمعة، الموافق 1 آب/ أغسطس 2025، في شارع العلالي، أحد الشوارع التاريخية في قلب المدينة.
ويأتي هذا المشروع في إطار رؤية تنموية–ثقافية–مجتمعية شاملة، تهدف إلى إحياء التراث العمراني للبلدة القديمة، وإعادة تنشيط الحركة التجارية، وتعزيز الطابع الاجتماعي والهوية الثقافية للمدينة. ويتماشى هذا التوجّه مع استراتيجية بلدية البيرة لإعادة تأهيل مركز المدينة التاريخي، وتفعيله كمحور اقتصادي وثقافي نابض بالحياة....
اسم يحمل الذاكرة… وجذور المكان
لطالما شكّلت "الأحواش" النواة الأولى لتشكّل الحارات في مدينة البيرة، فهي وحدات عمرانية واجتماعية ارتبطت بأسماء العائلات التي سكنتها عبر أجيال، مثل: حوش الطويل، حوش عابد، حوش قرعان، وغيرها من التجمعات التي لا تزال ترسم خريطة الذاكرة المحلية حتى اليوم.
لكن الأحواش لم تكن مجرد تقسيمات مكانية، بل مثلت نمطًا متكاملاً من العيش التشاركي، وعكست روح التلاحم المجتمعي في وجه تغيّرات الزمن وتحدياته. ومن هذا العمق، جاء اختيار اسم "أحواش البيرة" للسوق الشعبي الجديد، ليعيد إحياء هذه الدلالات، ويستحضر حضورها كفضاءات حية نابضة، لا كشواهد منسية، بل كمواقع تُبعث فيها الحياة من جديد، وتُستعاد من خلالها العلاقة بين الإنسان والمكان.
امتداد لتاريخ السوق… وتفاعل دائم بين الحرفيين والمجتمع
تميّزت مدينة البيرة عبر تاريخها بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وبحيويتها في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية، ما جعلها مركزًا دائمًا للتبادل والتفاعل بين التجار والحرفيين والمواطنين. وقد شكّلت
الأسواق الأسبوعية فيها، مثل سوق الجمعة وسوق المواشي، علامات بارزة في المشهدين الاقتصادي والاجتماعي، حيث عكست ديناميكية المجتمع الفلسطيني، واحتضنت وظائف ثقافية واقتصادية متنوعة امتدت عبر القرون.
وانطلاقًا من هذا الإرث الغني، يأتي مشروع "أحواش البيرة" ليُعيد الروح لتقاليد السوق الشعبي، ويمنحها بُعدًا ثقافيًا جديدًا. يهدف السوق إلى استضافة الحرفيين ومنتجي الصناعات اليدوية والتراثية، وتشجيع الابتكار المحلي، وخلق فضاء تفاعلي مفتوح يجمع بين المبدعين والجمهور، في بيئة تحتفي بالهوية الثقافية، وتعزز من التواصل الإنساني بين مكوّنات المجتمع....
رؤية ثقافية–حضارية... من قلب الذاكرة إلى فعل مجتمعي
يحمل مشروع "أحواش البيرة" بعدًا ثقافيًا واضحًا، يتجسّد في رؤية بلاغية وعملية عبّر عنها الدكتور سعد عميرة، مدير مركز البيرة الثقافي، الذي وصف السوق بقوله:
"نحن لا نعيد فقط إحياء السوق، بل نفتح فضاءات جديدة للإبداع، ونحتفي بتراث البيرة المادي والمعنوي، ونخلق روافع مجتمعية تحمي مدينتنا عبر الفعل الثقافي والتجاري".
هذا التصور يعكس رؤية متكاملة الأبعاد، حيث يشكّل السوق إطارًا ثلاثيًا يجمع بين الفضاء الحضري، وإنتاج المعرفة، والحماية الاجتماعية. ففي هذا السياق، يتعاون طلاب كليات العمارة على تصميم السوق بما يراعي الطابع التراثي للمنطقة، فيما تختار البلدية نخبة من الحرفيين والفنانين لعرض مهاراتهم، وتتسع الدائرة لتشمل المجتمع المحلي في حراك شعبي تشاركي يسهم في صون الذاكرة الحضرية وإعادة تفعيلها كجزء من الحياة اليومية.
السوق إذًا ليس مجرد مساحة للعرض والبيع، بل مختبر حضري حيّ يُصاغ فيه المستقبل بالاستناد إلى التاريخ، وتُبنى فيه العلاقات من جديد بين الإنسان والمكان.
أهداف متعددة... وسوقٌ يعيد ربط الإنسان بالمدينة
من المنتظر أن يسهم مشروع "أحواش البيرة" في تعزيز الحضور الشعبي في البلدة القديمة، عبر تحقيق مجموعة من الأهداف التنموية والثقافية والاجتماعية، من أبرزها:
· إحياء الحرف اليدوية من خلال عرض وبيع المنتجات التقليدية الفلسطينية، وربطها من جديد بالحياة اليومية للمواطنين؛
· تنشيط الحركة الاقتصادية المحلية، وخلق فرص عمل مستدامة، لا سيما لفئتي الشباب والنساء؛
· تعزيز التماسك الاجتماعي عبر تنظيم لقاءات ومناسبات مجتمعية تُعيد إحياء روح التلاقي الشعبي في فضاء مشترك؛
· تنشيط السياحة الداخلية، من خلال الترويج للطابع المعماري الفريد لأحواش المدينة، وجذب الزوّار لاكتشاف تاريخها الحي؛
· تحفيز الحياة الثقافية عبر فعاليات مرافقة تشمل عروض موسيقية، وفنون بصرية، وجلسات تفاعلية مفتوحة.
وفي ظل هذه الأهداف، تحرص بلدية البيرة على الحفاظ على البيئة العمرانية للموقع، إذ يقام السوق في شارع تراثي عتيق. فالهندسة المعمارية الحجرية، والأزقة الضيقة، والمشهد البصري القديم، كلّها ستظل حاضرة ومتناسقة مع رؤية المشروع، لتبقى هوية المكان محفوظة ومتجددة في آنٍ معًا.
كما يشجّع السوق على دعم الإنتاج المحلي، خصوصًا من المأكولات البلدية والمزروعات التراثية، بما يسهم في حماية منظومات الزراعة المستدامة ويعزز من الأمن الغذائي المحلي.
جمهور متنوع… ودعوة للمشاركة والانخراط
وجّهت بلدية البيرة دعوة مفتوحة إلى جمهور واسع يشمل أهالي البيرة ورام الله، والمغتربين الفلسطينيين في الشتات، إلى جانب مؤسسات أكاديمية ومجتمعية. وقد دُعيت بشكل خاص:
· كليات العمارة والفنون والدراسات الحضارية في رام الله للمساهمة في تطوير التصور المعماري للموقع؛
· أقسام الإعلام والتصميم في الجامعات، للمشاركة في توثيق المشروع بصريًا وإعلاميًا؛
· طلاب الجامعات، لخوض تجربة ميدانية تربط بين الإبداع والتخطيط الحضري، وتمنحهم مساحة للتفاعل مع المدينة بشكل عملي وإنساني.
المشروع لا يهدف فقط إلى جذب الزوار، بل يسعى إلى بناء علاقة مستدامة بين الإنسان والمكان، تُستعاد من خلالها المدينة كحالة معيشة، لا كمجرد معلم تاريخي.
أحواش البيرة: نموذج حضري يدمج بين التاريخ والمستقبل
بإطلاق مشروع "أحواش البيرة"، تضع بلدية البيرة حجر الأساس لنموذج حضري معاصر، يدمج التراث العمراني والتنمية المحلية والإبداع المجتمعي. في زمن تتقلص فيه المساحات العامة أمام الزحف الإسمنتي، وتغيب فيه الأسواق التقليدية لصالح المولات الحديثة، تبرز هذه المبادرة كرسالة مهمة مفادها أن المكان لا
يضيع طالما بقي فيه من يُحبّه. يُذكّر مشروع "أحواش البيرة" المجتمع بأن المشهد الحضري يمكن أن يُصنع ويُعاد تشكيله، عندما يتضافر الوعي الجماعي، والمشاركة الفاعلة، والتعاون البناء.
في جوهره، لا يُعدّ السوق مجرد حدث تجاري. بل هو بمثابة استعادة للذاكرة الجماعية، وإعلان عن المستقبل، وخطوة إنسانية تسعى إلى إعادة الحياة إلى الحارات القديمة في البيرة. إنه تذكير بأن الحياة مستمرة، وأن حضور الناس في الأماكن يصنعها، بداية من الأطفال وصولًا إلى الكبار، يومًا بعد يوم.
فهكذا تُبنى المدن الحقيقية: تبدأ بسوق… ثم قصة… ثم حياة.