ولادة الألم والموت في غزة

بينما يغرق العالم في صراعاته السياسية وحساباته الدولية، تتشكل في غزة مأساة صامتة، لا يُسمع صداها إلا من خلال الأرقام، ولا يُترجم وجعها إلا بلغة الألم، ولا تحتاج إلى تفسير أو تحليل، فهي واضحة وضوح الشمس، وصارخة كالحقيقة، وموجعة كالفقد. حيث تداول صحفيون عبر منصات التواصل الاجتماعي بيانات صادمة نُسبت إلى مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة الفلسطينية، تكشف حجم الكارثة التي يعيشها المواليد في قطاع غزة خلال النصف الأول من عام 2025. ولم تكن هذه الأرقام مجرد مؤشرات طبية، بل بدت كأنها إعلان موت جماعي للأمل في مكان لم يُمهَل للحياة، ولا حتى للولادة.
شهد قطاع غزة في غضون ستة أشهر فقط 17 ألف حالة ولادة، لكن من بين هذه الولادات، تم دفن 2600 طفل قبل أن يخرجوا إلى الحياة، وتوفي 220 جنيناً خلال الحمل، بينما لفظ 21 آخرون أنفاسهم في اليوم الأول بعد ولادتهم. وهناك 67 طفلاً وُلدوا بتشوهات خلقية، و2535 رضيعاً احتاجوا إلى دخول الحضانة بسبب مشاكل صحية حادة. كما أن أكثر من 1600 طفل وُلدوا بوزن أقل من الطبيعي، و1460 حالة كانت ولادات مبكرة.
لا تحتمل هذه الأرقام التأويل ولا الجدل، فهي تعني شيئاً واحداً فقط: أن الحياة في غزة تُنتزع حتى قبل أن تبدأ. وتعكس هذه الأرقام وجهاً آخر للإبادة الجماعية، يتجلّى في الإفراغ البطيء والمنهجي للهوية والأمل، والهدم غير المعلن لمستقبل أجيال كاملة. حيث تُمارس بحق الأطفال الذين لم يولدوا بعد أبشع أشكال العقاب الجماعي، يُقتلون وهم أجنّة، يُولدون مرضى، ويُحاصرون منذ لحظة الصرخة الأولى. والسبب؟ أن أمهاتهم يعشن في حصار مستمر، وتحت قصف متكرر، بلا كهرباء ولا دواء، وبلا غذاء ولا ماء نقي. وباتت الأمهات يتنقلن بين المستشفيات كمن يركض داخل متاهة مظلمة بلا مخرج، وبلا ضمانات، وبلا حتى طبيب قادر على تقديم الحد الأدنى من الرعاية.
لم يعد الحق في الحياة مكفولاً، ولم يعد الحق في الأمل محفوظاً، فبعد السابع من أكتوبر، سُلب الشعب الفلسطيني في غزة أبسط حقوق الإنسان، وهو الأمل: الأمل في النجاة، في استمرار الحياة، في ولادة طفل سليم، في بناء بيت، في إرسال الابن إلى المدرسة، في نوم بلا قصف، في يوم بلا جنازات.
بات الفلسطيني يُقاوم لا من أجل الحلم، بل من أجل البقاء. وهنا، يبرز سؤال أخلاقي وإنساني لا مفر منه: أي ثورة نحتاجها اليوم؟ نحتاج إلى ثورة على الصمت، وعلى اعتياد الألم، وعلى تطبيع القتل البطيء. نحتاج إلى ثورة على سياسة الكيل بمكيالين، وعلى تواطؤ العالم مع الإبادة، وعلى عجز المنظمات الدولية التي باتت تشهد المأساة وتسجلها دون أن توقفها. نحتاج إلى ثورة تسترد الحد الأدنى من العدالة لهذا الشعب المظلوم، وإلى ضمير عالمي يعيد تعريف الإنسانية، لا على أساس الجغرافيا، بل على أساس القيمة الإنسانية الواحدة.
ما يريده الفلسطيني اليوم ليس امتيازاً، فهو فقط يريد أن يولد أطفاله أحياء، وأن يعيشوا بكرامة، وأن يكون لهم مستقبل، وأن تتوقف حرب الإبادة التي لا تنتهي. فهل هذا كثير على شعب صامد منذ عقود؟ هل صار الأمل في غزة جريمة؟ وهل بات الحلم بالحياة رفاهية لا تُمنح إلا لأمم دون غيرها؟
إن الصمت جريمة، والتواطؤ شراكة، والعالم مطالب اليوم أن ينظر في عين غزة ويقرر: هل ما زال للإنسانية مكان؟.