غزة... نبض العالم في غرفة الإنعاش

2025-07-20 13:56:38

في العام 1948، انهارت الجغرافيا الفلسطينية تحت ثقل المؤامرة الدولية، فكان ما عُرف بـ"النكبة". لكن ما يجري اليوم في غزة لا يُشبه أي نكبة، بل تفكيك مُعلن لبنية الوجود الفلسطيني، ونسف كامل لفكرة الوطن، والهوية، والحق. فغزة لم تُترك لقدرها، بل تم اختيارها بعناية لتكون نقطة الصفر لنظام عالمي جديد تُرسم حدوده على أنقاضها.

إننا لا نشهد فقط إبادة بشرية في قطاع صغير محاصر، بل نُشاهد إعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط والعالم، بسكاكين جيوسياسية تحمل شعارات "السلام" و"محاربة الإرهاب"، لكنها تُمارس دور القاتل بلباس القاضي.


الفصل الأول: غزة في قلب التحولات الكونية – لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الشكل؟

غزة ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي شيفرة مقاومة، وعقدة في حلق مشروع الهيمنة الغربي-الصهيوني. ولأنها كذلك، جاءت اللحظة التي تقرر فيها القوى الكبرى تصفيتها نهائيًا من المعادلة.

● مشروع القرن الأمريكي الأخير

الولايات المتحدة، التي تقود النظام الدولي المنهك، تسابق الزمن لإعادة ضبط الإقليم على إيقاع "الأمن الإسرائيلي" بوصفه قاعدة انطلاق نحو:

إنهاء كل جيب مقاوم يمكن أن يربك مشروع التطبيع الكلي.

إغلاق ملف العودة إلى الأبد، وهو الملف الذي لا يُمكن تجاوزه دون تحييد غزة.

تحويل إسرائيل إلى منصة استخباراتية-عسكرية لحماية المصالح الغربية من المتوسط إلى الخليج.


● التحالف الإسرائيلي-الغربي: ليس دعمًا، بل شراكة وجود

إسرائيل لم تعد كيانًا وظيفيًا فقط، بل تحولت إلى رأس حربة استراتيجية تُكمل دور الحلف الأطلسي في جنوب المتوسط. لذا، فإن تصفية غزة تمثل:

مرحلة متقدمة من “النيتو الإقليمي”.

استخدام مفرط للقوة كرسالة لكل من يفكر بتجاوز المربع الأمريكي في المنطقة.

بروفة حرب على صعيد الإعلام والدبلوماسية والاقتصاد، تمهد لصراعات أكبر (الصين، روسيا، إيران).

الفصل الثاني: من المستفيد من سقوط غزة؟ ومن هو الهدف التالي؟

1. إسرائيل – من دولة حدود إلى دولة محور

زوال غزة يعني أن إسرائيل ستتحول من كيان دفاعي إلى:

قوة إقليمية ذات نفوذ عابر للحدود، تمسك بزمام الأمن والطاقة والتجارة في المنطقة.

تُسيطر عمليًا على الحدود المصرية، والبحر الأحمر، والمعابر الشرقية.

تصبح الوصي الجديد على المنطقة بدلًا من الحضور الأمريكي المباشر.


2. الولايات المتحدة – انسحاب محسوب خلف نيران غزة

واشنطن تعرف أن دورها في الشرق الأوسط لم يعد مقبولًا شعبيًا. لذا:

تُحارب عبر الوكلاء (إسرائيل).

تدعم الانهيار الكامل لغزة لتُظهر أن "المشروع الإسلامي المقاوم" انتهى.

تهيئ المسرح لانفجارات داخلية تُبرر عسكرة الشعوب بحجة الأمن.


3. الصين وروسيا – رقصة على دماء غزة

فيما تغرق غزة، تراقب الصين وروسيا المشهد بحسابات دقيقة:

كل نقطة ضعف أمريكية تُعزز مكانتهما في آسيا وإفريقيا.

لكن صمتهما على المجازر يشي بأن المبادئ لا تُصرف في البورصة الجيوسياسية.

روسيا تستخدم غزة كورقة تفاوض ضمن ملفات أوكرانيا والطاقة.

الصين تساوم على مصالحها في البحر الأحمر وبحر الصين الجنوبي مقابل موقف رمادي تجاه المجازر.

الفصل الثالث: هل غزة هي بداية النهاية أم نهاية البداية؟

غزة تُذبح، والعالم يُصفق، أو يتثاءب. لكن السؤال الأعمق هو: هل ما يجري نهاية لمشروع المقاومة؟ أم بداية لفوضى جيوسياسية لا يستطيع أحد احتواءها؟

■ شعوب المنطقة: بين الغضب المقموع والانفجار المحتوم

إذا سقطت غزة، فستشعر الشعوب العربية أن آخر رمز للكرامة قد دُمّر.

هذا سيدفع نحو ثورات هوية لا سياسية فقط، تتحدى الأنظمة والخرائط معًا.

الفراغ الأخلاقي للأنظمة سيخلق ديناميكيات بديلة، قد تكون عابرة للطوائف والجغرافيا.


■ مصر: الدولة التي تواجه لعنة سيناء

أي ترحيل لغزيين إلى سيناء يعني تدويل الملف المصري الفلسطيني.

ستكون مصر أول المتضررين من "غزة المُرحّلة".

تحويل سيناء إلى منطقة فوضى يعني إعادة رسم خريطة مصر ذاتها.


■ الضفة والقدس: ساعة الصفر

ما بعد غزة هو الضفة والقدس. الخطة الإسرائيلية واضحة:

تصعيد في الاستيطان.

ضم تدريجي، ثم ترانسفير خفي.


سقوط غزة يعني فتح الطريق لمجزرة ديموغرافية جديدة باسم "التوازن السكاني".

الخاتمة: غزة ليست مكانًا... بل بوابة عصر جديد

غزة اليوم هي النقطة الحرجة في التاريخ الإنساني المعاصر. سقوطها لن يكون سقوط مدينة فقط، بل سقوط كل القيم التي تأسست عليها الحضارة الحديثة: من حقوق الإنسان إلى القانون الدولي، من حرية الشعوب إلى فكرة العالم المتعدد.

فإذا سقطت غزة، فالعالم بأسره سيتحول إلى غزة كبرى بلا مقاومة، حيث يُشرعن القتل، ويُداس القانون، ويُباع التاريخ في المزاد.

السؤال الذي يصرخ في ضمير كل من تبقى له ضمير:
هل نحن شهود على مجزرة؟ أم شركاء في مسرح الجريمة؟
وهل سنُسجل في التاريخ كمنقذين... أم كأشباح صامتة وقفت تشاهد موت الحقيقة على شاشات HD