زياد مات... والمعتّر ضلّ بلا لحن

2025-07-27 15:40:21

منذ المرة الأولى التي سمعت فيها اسم زياد الرحباني، كنت فتى يحاول أن يفهم الحياة من خلف زجاج المذياع، وكانت أغنية "أنا مش كافر" تصرخ في وجهي وتفتح في رأسي باباً لا يُغلق. لم يكن صوت زياد مألوفاً، لم يكن مطرباً تقليدياً، ولم يكن حتى كاتباً أو ملحناً عابراً. كان حالة فكرية، نفسية، اجتماعية، صوتاً لهؤلاء الذين لا صوت لهم، ومرآةً مشروخة تعكسنا نحن، بضعفنا وهزائمنا وسخريتنا من كل شيء.

منذ تلك اللحظة بدأت رحلتي مع زياد، لم أكتفِ بسماعه. فتشت عن كل مسرحية، كل تسجيل، كل مقابلة. "بالنسبة لبكرا شو؟"، "فيلم أميركي طويل"، "نزل السرور"، كانت محطاتي لاكتشاف لبنان الآخر، لبنان الناس، لا لبنان السلطة والبطاقات الحزبية. اكتشفت من خلالها أن الفن يمكن أن يكون أكثر من جَمال... يمكن أن يكون وجعاً جميلاً.

رحل زياد؟ لا، بل توارى عن الضوء كما كان يفعل دائماً. رجل يعشق الظلال ولا يثق كثيراً في الكاميرات. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن لبنان، ومعه نحن، فقدنا ظلاً كبيراً.

زياد لم يكن ابن فيروز وعاصي فقط، وإن كانت هذه النشأة صنعت له أرضية فنية استثنائية. لكنه تمرّد حتى على تلك القداسة، حوّل أمه من أيقونة طهرانية إلى امرأة تغني "شو هالحب اللي طالعلي فيه؟"، و"حاج تنفّخ دخنة بوجي". كسر القالب، وانتزع فيروز من برجها العاجي، وأسكنها في بيت يعجّ بالدخان والسجائر والقهوة والتنهيدات... بيت الناس.

أحب زياد الفقراء، لا من باب الشعارات، بل من باب الشبه. هو لم يكن فقيراً بالمعنى الاقتصادي، لكنه فقير في الثقة، في التقدير، في الحب، تماماً كما هو "المعتّر" في كل شارع عربي. منح الفقراء ضحكة، منحهم مسرحاً، منحهم جوزيف صقر، ذاك الصوت المكسور كعود مهترئ، ولكنه صادق لدرجة أن تصدقه حتى لو قال لك إن السماء خضراء.

فنيا، زياد ليس مجرد ملحن. هو نظام تفكير. لم يكن يعيد إنتاج الرحابنة، بل ابتكر تياراً خاصاً، قادراً على المزج بين الجاز والمسرح السياسي والمونولوج والموقف النقدي، وكل هذا بلكنة بيروتية لا تهتم كثيراً بما يُقال عنها. في "نزل السرور"، جعلنا نضحك ونبكي في ذات اللحظة، حين حوّل الثورة إلى خيار بين "أغنية" أو "موت". في "فيلم أميركي طويل"، كان يرى لبنان من فوق، من مكان لا يستطيع السياسيون رؤيته.

وفي الحب؟ لا أعرف فناناً حوّل علاقاته الشخصية إلى قنابل عاطفية ساخرة كما فعل زياد. أغنية "ممنون أنا لأبوكِ"، ليست فقط نشيداً للرجال المرفوضين، بل توثيق لفشل الحب حين يختلط بالقهر والامتيازات الطبقية. أما مع كارمن لبّس، فقد نقل لنا فصلاً حقيقياً من كتاب حياته، أغنية "ولعت كتير" كانت آخر ما تبقى من دفء ذلك الحب الذي لم يكتمل.

زياد لم يكن مطرباً، لم يكن ملحناً، لم يكن مسرحياً فقط. كان منظومة صدق، ولذلك لم تتحمّله المؤسسات، ولا السلطة، ولا حتى جمهور الاستعراض.

نقده للسياسة كان أكثر رحمة من نقده للناس. لم يحتقر الشعب، بل خاف عليه. ولذلك لم يُسقط أبداً الأمل من معادلاته، حتى وهو يعلن أنه "مش كافر"، أو حين يقول لنا بكل تعب: "جايي مع الشعب المسكين". لم يكن يعدنا بانتصار، لكنه وعدنا بالمرآة... وهذا أصدق ما يمكن أن يقدّمه فنان.

رحل زياد؟ لا، بل انسحب من مشهد ما عاد يشبهه، تماماً كما انسحب من أغنية، من حوار، من حفل، من حب. لكنه سيظل هنا، في أزقة مسرح المدينة، في صوت جوزيف، في ارتباكنا ونحن نستمع إلى "كيفك إنت؟".

وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أرثي زياد الرحباني فقط، بل أرثي مرحلة فينا، تلك التي كانت تصدّق أن المسرح قد يغيّر العالم، وأن الأغنية قد تداوي، وأن الصدق وحده يكفي ليبقى الإنسان.
وداعاً يا زياد، يا من علمتنا أن الصمت أحياناً أبلغ من التصفيق، وأن "المعتّر" ليس حالة اجتماعية، بل هو نحن.

وداعاً... وأي بكاء هذا الذي لا يشبه ضحكتك الساخرة؟