غزة... والفرصة الأخيرة للسلطة الوطنية

2025-07-28 21:35:25

في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات وتتفكك فيه الثوابت، تقف غزة اليوم على حافة مفترق مصيري، لا يشبه كل ما سبق من محطات. لم تعد المسألة مجرد صراع مسلح أو أزمة إنسانية، بل تحوّلت إلى سؤال كيان وشرعية: من يحكم؟ ومن يُعيد البناء؟ ومن يُمثّل هذا الشعب الذي تقاسمت دماءه الجغرافيا والسياسة؟

منذ بداية الحرب، وغزة تُقصف وتُجتثّ بلا هوادة. البيوت تُهدم، الأحياء تُزال، والمؤسسات تُمحى، في مشهد لم يعرف له التاريخ الفلسطيني الحديث مثيلاً. ومع ذلك، يظل الغائب الحاضر في كل طاولة نقاش دولية أو عربية هو "السلطة الوطنية الفلسطينية"؛ تلك التي يعترف بها الجميع، لكن حضورها في غزة ما زال مؤجلاً، مؤجلًا إلى حين، أو ربما مؤجلًا إلى ما لا نهاية إن لم يتم اتخاذ قرارات حاسمة.

حين تصبح الشرعية فرصة... لا ورقة ضغط

السلطة، رغم كل ما شاب مسيرتها، تبقى الجهة الشرعية في نظر القانون الدولي. وهذه حقيقة لا تُمحى برغبة أو خصومة. ولكن الشرعية، إذا لم تُترجم إلى فعل سياسي وإداري، تذوب تدريجيًا في عيون الناس، لا بفعل الاحتلال فقط، بل بتقادم الانتظار وغياب القرار.

ومن موقع الإنصاف لا المجاملة، لا يمكن أن نُغفل أن السلطة كانت – ولسنوات – محاصرة بمحددات إقليمية ودولية، وأُديرت ضدها حرب تمويل وعزل، ووجدت نفسها بين فكّي الانقسام والحصار والاحتلال. ومع ذلك، فالتاريخ لا يُحاسب بالنوايا بل بالنتائج، والنتيجة الآن واضحة: قطاع غزة يحتاج إلى إدارة وطنية مسؤولة، تتعامل مع ما بعد الحرب بعقل بارد وروح وحدوية، وإلا فإن المشروع الوطني نفسه مهدد بالتآكل.

غزة ليست خصمًا... بل اختبار قيادة

في كل تصريح رسمي، نسمع التأكيد على أن غزة "جزء لا يتجزأ من الوطن". لكن هذه العبارة، رغم صدقها القانوني، لم تجد صداها الفعلي بعد. غزة اليوم تعيش بلا مؤسسات، بلا حوكمة، بلا أفق إداري، في مشهد كارثي لا يحتمل الانتظار أكثر. وهنا، تأتي السلطة الوطنية أمام تحدٍ وجودي: هل تعود إلى غزة كقائد لكل الفلسطينيين؟ أم تظل في موقع المتفرّج والناقد؟

العودة ليست قرارًا إعلاميًا، ولا أمنية، بل تتطلب رؤية دقيقة، وخطابًا جامعًا، وجرأة في فتح أبواب الحوار حتى مع الخصوم، لأن من يريد أن يحكم وطنًا لا يختار جمهوره.

مقترحات عملية: من النُصح لا الملامة

لعل أصدق النصائح هي تلك التي تأتي من قلبٍ يريد الخير، لا من لسانٍ يطلب مكاسب. ومن هذا المنطلق، فإن ما يلي قد يُشكّل خارطة طريق واقعية يمكن للسلطة أن تنطلق منها:

1. إطلاق مبادرة وحدة وطنية حقيقية
تبدأ من غزة، وتضع أساسًا لحكومة شاملة لا تهمّش أحدًا، وتحمل برنامجًا وطنيًا متفقًا عليه، بعيدًا عن الحسابات الفصائلية الضيقة.


2. نشر بعثات خدمية تدريجية في غزة
وزارات التعليم، الصحة، الشؤون الاجتماعية، يمكن أن تكون أول جسور العودة، بعيدًا عن الصيغة الأمنية التي تنفر الناس أكثر مما تُطمئنهم.


3. الحديث بخطاب جديد يليق بالمرحلة
خطاب يعتذر عن تقصير الماضي، ويَعِد بمستقبل مختلف، ويعترف بالجراح بدل إنكارها، ويُقرّ بالخطأ دون أن يفقد شرعية القيادة.


4. إطلاق مؤتمر فلسطيني – فلسطيني
يُعقد في غزة، وتحت علم فلسطين، ويضم القوى والفصائل والمستقلين، ليكون مقدّمة لحوار استراتيجي يُعيد بناء مفهوم "الوطن المشترك".


5. الاستعداد للمشاركة المباشرة في إعادة الإعمار
من خلال تشكيل جسم وطني رقابي تنفيذي، يُطمئن الدول المانحة، ويمنع أي تفرد أو فساد، ويعيد ثقة المواطن بمنظومته السياسية.

ما بعد الحرب... ليس فقط إسمنت وحديد

غزة لا تحتاج فقط إلى ترميم حجارتها، بل إلى ترميم ثقتها بالمركز السياسي الفلسطيني. لا تُبنى المجتمعات على العواطف، بل على مشاريع متكاملة. وإذا ما امتلكت السلطة الجرأة لأن تنزل إلى الميدان، لا بشروطها وحدها بل بشروط الواقع أيضًا، فستُفتح أمامها أبواب لم تُفتح منذ سنوات.

التاريخ لا ينتظر، ومن لا يصنع اللحظة، تصنعه اللحظة. وها هي اللحظة الآن ناضجة، لا لتكريس الانقسام، بل لتجاوزه بعقل دولة، لا بلغة انتصار فصيل.

غزة تنتظر من السلطة ألا تعود كطرف، بل كأم... تحتضن الجميع.