غزة.. حين تمحى أسماء الشوارع وتضيع معها الذاكرة

2025-07-29 02:22:26

غزة - رغد إيهاب الغصين 

في غزة، لم يكن الناس يحتاجون إلى خرائط ليتنقلوا بين أحيائهم، كانت أسماء الشوارع كافية للدلالة والذاكرة والحنين.

"عند مفترق الصناعة"، "شارع عمر المختار"، "طريق البحر"... كانت إشارات يومية تختزن حكايات ووجوهاً وروائح، لكنها اليوم تلاشت، كما تلاشت معالم المدينة تحت ركام الحرب.

لافتات ضائعة.. وطرق بلا ملامح

تسير أم زياد عويضة (50 عامًا) في أحد أحياء غزة التي مزقها القصف، تحاول أن تتعرف على الطريق الذي سلكته مئات المرات، لكن الطرق أضحت متشابهة، بلا أسماء، بلا معالم، بلا أثر يدل على الحياة. تقف أمام كومة ركام كانت يومًا ما مدرسة، وتقول بصوت موجوع: "كنا زمان نحكي نلتقي عند مفترق الصناعة... واليوم لا مفترق ولا صناعة".

الخرائط لم تعد مجدية، والدلائل باتت رمادًا. يتنقل السكان اليوم مستندين إلى إشارات حزينة مؤقتة: "عند السيارة المحروقة"، "بعد عمود الكهرباء المايل"، أو "عند البيت اللي نصه رايح ومفحِّم".

هكذا صار الوصف في مدينة نسيت شوارعها، لكنها لم تنس حكاياتها.

فقدان الشارع... فقدان للهوية

تقول د. نوال حرب، المتخصصة في علم الاجتماع، إن اختفاء أسماء الشوارع لا يعني فقط فقدان علامات طريق، بل "سقوط رمزي لذاكرة جماعية وهوية حضرية".
وتضيف: "كانت أسماء الشوارع تحملنا من الحاضر إلى الماضي، تربطنا بأيام الطفولة والروتين اليومي، ومع اختفائها نفقد جزءًا من ذاتنا ومن إحساسنا بالمكان".

في شارع عمر المختار، الذي كان يوماً القلب النابض لغزة، تلاشت معالم الحياة، وفي شارع البحر لم تعد نسائم الصباح تحضر. كل شيء تبدّد، إلا الحنين.

ذاكرة تنزف وتقاوم

في المدينة التي كانت تعرف نفسها بأسمائها، أصبحت الشوارع بلا هوية مرئية، لكن الناس ما زالوا يحملون أسماءها في قلوبهم. ينادون بها في الحكايات، يكتبونها على أطراف الذاكرة، ويستعيدونها حين يمرّون على ركام زاوية كانت يومًا لهم.

الناس لا يبحثون فقط عن اللافتة، بل عن "ظل نخلة"، أو "صوت بائع الفلافل"، أو رائحة خبز فاحت من فرن حجري في حارة بعيدة. كل شيء بسيط أصبح ماضيًا كبيرًا، وحضورًا موجوعًا.

حين تعيد الذاكرة تسمية المكان

ما تبقى لأهل غزة ليس الشارع كما كان، بل كما أصبح. أصبحوا يعيدون تسميته من جديد: "شارع الصمود"، "زقاق العودة"، "مفترق الصبر"... ففي غياب اللافتة الرسمية، تولد لافتة أخرى من رحم التجربة والمعاناة.

في كل زاوية، قصة. في كل ركام، ذكرى. وفي كل اسم غائب، قلب يهمس به رغم الدمار.

العدوان على غزة لم يُسقط البيوت فقط، بل محا جزءًا من هوية المدينة البصرية والوجدانية. ومع غياب أسماء الشوارع، يغيب جزء من الذات الجماعية للناس، لكنهم يصرّون على استعادتها، بالحب، وبالذاكرة، وبالإصرار على الحياة.