انتخابات المجلس الوطني… مفترق طرق بين الإنقاذ والإقصاء

2025-08-08 23:01:20

 يأتي قرار الدعوة لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني وتشكيل لجنة تحضيرية لهذه الانتخابات في لحظة تاريخية حرجة وغير مسبوقة، تُعد من أخطر المراحل التي يمر بها شعبنا منذ نكبة عام 1948. نحن اليوم أمام مشهد معقّد، تتقاطع فيه الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، مع سياسة إسرائيلية معلنة لتقويض الكيانية الوطنية الفلسطينية، وفرض حصار مالي خانق على السلطة الفلسطينية بهدف دفعها نحو الانهيار الكامل، وخلق بدائل محلية أو إقليمية تتجاوز التمثيل الفلسطيني بمؤسساته المعروفة والمعترف بها دوليا.

رغم أن وقف الإبادة ومنع التهجير القسري يظل أولوية الأولويات، وإن أي حديث عن الانتخابات في وقت يموت فيه أهل غزة – أطفالًا ونساءً وشيوخًا – جوعًا وسوء تغذية وتحت القصف، قد يبدو في ظاهره انفصالًا عن الواقع الميداني القاسي، غير أن الحقيقة أن المشهد الفلسطيني أكثر تعقيدًا، إذ يرتبط بشكل مباشر بالحراك الإقليمي والدولي الجاري، الذي يشمل تحركات دبلوماسية متسارعة كان أحد أبرز معالمها إعلان نيويورك حول حل الدولتين، والذي حظي بمصادقة 17 دولة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

لقد أصبح إجراء انتخابات فلسطينية مطلبًا إقليميًا ودوليًا، وجاء التأكيد عليه بشكل صريح في إعلان نيويورك. غير أن هذا الموقف الدولي والإقليمي ينطوي على تناقض واضح؛ فالإعلان يضع شروطًا قد تفضي عمليًا إلى إقصاء قوى محورية في النسيج الوطني والسياسي الفلسطيني، وفي مقدمتها حركة "حماس"، في الوقت الذي يطالب فيه بإصلاح النظام السياسي وإعادة الثقة والشرعية لمؤسساته. والسؤال الجوهري هنا: كيف يمكن بناء نظام سياسي يتمتع بشرعية تمثيلية حقيقية إذا كانت مكونات أساسية من الشعب والقوى السياسية مستبعدة من العملية الانتخابية منذ بدايتها؟

هذا التناقض انعكس أيضًا في قرار تشكيل اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني؛ فبينما تنص الفقرة الأولى من المادة المتعلقة باختصاصات اللجنة على تكليفها بإجراء حوار وطني شامل مع جميع القوى لتهيئة الظروف اللازمة لإجراء الانتخابات، تنص مادة لاحقة على وضع شروط للانضمام إلى المجلس الوطني، أبرزها الالتزام بالبرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وبالتزاماتها الدولية (وهي نفس الصيغة الواردة في اعلان نيويورك).

من جهة أخرى، ورغم أن قرار الإعلان عن انتخابات المجلس الوطني وتشكيل اللجنة التحضيرية قد يبدو في ظاهره نتاجًا للتحركات الدولية والإقليمية، وجاء في سياقها، بل وتماشيًا مع اشتراطات بعض الدول التي تربط اعترافها بدولة فلسطين بإجراء الانتخابات، إلا أن ما لمسته من خلال لقاءاتي مع عدد من ممثلي الدول الأجنبية في فلسطين يشي بخلاف ذلك. فهؤلاء لا يرون في هذا القرار استجابة حقيقية لما يتوقعونه، إذ يركز معظمهم على المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، لا انتخابات مجلس وطني.

وايضا مؤسسات المجتمع المدني وبعض القوى السياسية وكثيرون في الشارع الفلسطيني، لا يرون في الدعوة لانتخابات المجلس الوطني جدية حقيقة بإجراء انتخابات. فلماذا لا تتم الدعوة، كما جرت العادة، لانتخابات تشريعية ورئاسية تليها انتخابات مجلس وطني بحيث يكون اعضاء التشريعي المنتخبين في الضفة وغزة جزء من المجلس الوطني؟ فضلا عن ان تجربة انتخابات 2021 والغاؤها في اخر لحظة ما زالت ماثلة في الذاكرة القريبة.

لقد شاركت مؤخرًا في جلسة حوارية نظمتها مؤسسات مجتمع مدني في رام الله وغزة لمناقشة قرار تشكيل اللجنة التحضيرية، وأجمع معظم الحاضرين على أن أي عملية انتخابية قادمة يجب أن تنطلق من معايير ديمقراطية واضحة، على أساس الشراكة الوطنية ورفض الإقصاء. وتأكيد الرفض القاطع لأي التفاف على المسار الديمقراطي عبر التعيين أو ما يُسمى "التشكيل"، خاصة في انتخابات الضفة الغربية وقطاع غزة. فتجاوز الانتخابات بالتعيين هو إعلان سقوط للنظام السياسي الفلسطيني وضربة قاضية لشرعيته أمام الشعب والعالم.

أشاركُ في عضوية اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني بصفة مراقب، حفاظًا على الدور الرقابي المستقل للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان. وقد أبلغنا هذه الصفة رسميًا إلى رئيس المجلس الوطني، الذي أكد عليها، مشكورا، في الاجتماع الأول للجنة بتاريخ 7/8/2025. إن الهيئة، ومعها المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، تدعم أي عملية سياسية حقيقية تقوم على انتخابات حرة ونزيهة، لا تُقصي أحدًا، وتعيد ثقة المواطن الفلسطيني بمؤسساته وحقه في اختيار ممثليه. كما أن النقاط الواردة في هذه المقالة كنت قد عرضت اغلبها بوضوح خلال اجتماع اللجنة الأول.

إن حالة التشكيك المحلية والدولية تضع على عاتق اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني مسؤوليات جسيمة، إذ يُفترض بها أن تبعث برسائل واضحة، للداخل والخارج على حد سواء، تؤكد الجدية في المضي نحو إجراء الانتخابات. ويستلزم ذلك أن تبادر اللجنة إلى فتح حوار وطني شامل مع مختلف القوى السياسية، يتناول القضايا الجوهرية كافة، وفي مقدمتها شروط المشاركة في الانتخابات، ولا سيما مسألة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والالتزام باتفاقاتها الدولية. فبينما تصر بعض الجهات الدولية على هذه الاشتراطات، يرى كثير من الفلسطينيين ومؤسساتهم أن من شأنها إقصاء قوى سياسية رئيسية، وتحويل الانتخابات إلى عملية مفصّلة على "المقاس الدولي"، بما يكرّس الانقسام بدلًا من تجاوزه، ويقوّض إمكانية إجراء انتخابات تنافسية وتعددية حقيقية.

كما يجب أن يشمل أي حوار وطني معالجة قضية الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، بحيث لا تصبح عامل تعطيل للعملية الانتخابية كما حدث في انتخابات 2021 المُلغاة. ويجب أن تُصاغ رؤية وطنية متفق عليها لضمان مشاركة المقدسيين ترشيحًا وانتخابًا، دون منح الاحتلال أي "فيتو" على القرار الفلسطيني.

في ظل هذا المشهد المزدوج – بين الإبادة والتجويع على الأرض، والحراك الدولي المقرون باشتراطات وضغوط – تأتي الدعوة إلى الانتخابات. وبرغم قسوة الظرف وتعقيداته، فإن هذه الانتخابات، إذا ما صُممت على نحو سليم، يمكن أن تشكل مدخلًا لإنهاء الانقسام وتجديد الشرعيات وإعادة الكلمة إلى الشعب، بل وتكون مخرجًا مشرّفًا للجميع، بما في ذلك حركة "حماس"، ضمن إطار اتفاق وطني شامل يعيد الاعتبار للشراكة السياسية والتمثيل الجامع.

إن التعامل مع هذا الواقع المعقّد يستدعي من جميع القوى التحلي بأعلى درجات المسؤولية الوطنية والشجاعة والمرونة، والانخراط في حوار جاد يفضي إلى صيغ توافقية تضمن شمولية المشاركة وعدم إقصاء أي طرف، مع مراعاة المتغيرات الدولية، واستثمار أي فرص سانحة لتعزيز الموقف الفلسطيني على الساحة العالمية.

لم يعد إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ترفًا أو خيارًا قابلًا للتأجيل، بل أصبح ضرورة وطنية وجودية لا تحتمل الانتظار. وإذا ما أُجريت الانتخابات على أسس توافقية، مع توفير الظروف القانونية والسياسية الملائمة، فإنها قد تشكل المدخل الأهم لاستعادة شرعية التمثيل الفلسطيني، وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير، وإفشال المشاريع الإسرائيلية الرامية إلى طمس الهوية الوطنية وتقويض الوجود الفلسطيني. أمّا إذا لم تُجرَ الانتخابات، أو جرت في ظل الإقصاء، فستتحول إلى أداة لتكريس الانقسام وتعميق شرذمة النظام السياسي، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التيه السياسي، بما قد يبدد فرصة استثمار المكاسب السياسية الراهنة وحالة التعاطف الدولي غير المسبوقة مع قضيتنا.