الماء… حقٌ لا يحتمل المساومة

حين تُحرم قرية من الماء، فإنك لا تسلبها مجرد مورد طبيعي، بل تنتزع منها الحياة نفسها. هذا ما يعيشه اليوم أهالي بلدتي بيت عور التحتا وصفا في الضفة الغربية، حيث تحوّل الحصول على المياه من حقٍ بديهي إلى معركة يومية، يواجه فيها الناس الحرمان والإهمال والتمييز في التوزيع.
البعض قد يبرر الأزمة بأنها "خلل فني" أو "نقص في الموارد"، لكن هذا التفسير السطحي يتجاهل جوهر المشكلة: غياب العدالة في التوزيع، وغياب التدخل الحاسم من الجهات المسؤولة. فالماء موجود، لكنه لا يصل للجميع بالتساوي، والنتيجة أن نساءً وأطفالًا ورجالًا يعيشون في حالة قلق دائم على أبسط احتياجاتهم.
الماء ليس رفاهية بل شرط للبقاء
أي محاولة للتقليل من خطورة الأزمة تتجاهل حقيقة أن الماء هو أساس كل مظاهر الحياة: الشرب، الطهي، النظافة، الزراعة، وحتى الصحة النفسية. ربات البيوت في هاتين البلدتين يضطررن لوضع جداول صارمة لاستعمال كل قطرة، فيغسلن الملابس على أيام متباعدة، ويقللن من مرات استحمام الأطفال، ويعدن استخدام المياه المعاد تدويرها. هذه ليست "تدابير ترشيد" كما قد يظن البعض، بل علامة على أزمة إنسانية حقيقية.
الأطفال… الضحايا الصامتون
لنأخذ الأطفال مثالًا: كيف يمكن لطفل أن ينمو بصحة جيدة وهو محروم من الاستحمام المنتظم أو شرب الماء النقي وقتما شاء؟ كيف يمكن لمدارسهم أن تضمن بيئة تعليمية سليمة في ظل شح المياه؟ إن تجاهل هذه الأسئلة يعني القبول بمستقبل يفتقر لأبسط مقومات الصحة العامة.
البعد الأخطر… تهديد السلم الأهلي
شح المياه ليس مجرد مسألة خدماتية، بل له أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة. حين يشعر السكان بالتمييز في حصولهم على مورد أساسي، تتولد التوترات بين القرى والمجتمعات المحلية. هذا الوضع يفتح الباب أمام نزاعات داخلية، ويضعف النسيج الاجتماعي الذي يشكل خط الدفاع الأول في مواجهة الاحتلال ومخططاته.
الاحتلال واستراتيجية الإفقار
لا يمكن فصل هذه الأزمة عن سياق أوسع، حيث يستخدم الاحتلال سياسات التضييق على الموارد الحيوية كأداة لإضعاف صمود الفلسطينيين. فمن حرمان غزة من الماء والكهرباء تحت الحصار، إلى تقليص حصص المياه في الضفة، يبدو واضحًا أن الماء نفسه أصبح سلاحًا في يد قوة الاحتلال، ضمن ما يمكن وصفه بـ"الإبادة البطيئة".
لماذا يجب التحرك الآن؟
الانتظار ليس خيارًا. كل يوم يمر دون حل يعني المزيد من المعاناة، والمزيد من الأطفال المعرضين للأمراض، والمزيد من التوترات التي تهدد السلم الأهلي. إن سلطة المياه ومحافظة رام الله والبيرة أمام اختبار حقيقي: إما التدخل العاجل لوضع حلول جذرية ودائمة، أو ترك الأزمة تتفاقم حتى تصل إلى نقطة اللاعودة.
الماء حقٌ لا يحتمل التأجيل
هذا ليس مطلبًا ترفيهيًا ولا خدمة ثانوية، بل استحقاق إنساني وقانوني وأخلاقي. القوانين الدولية تكفل لكل إنسان الحق في الحصول على مياه آمنة وكافية، وأي إخلال بهذا الحق هو انتهاك صارخ. وعليه، فإن وقفة أهالي بيت عور التحتا وصفا ليست مجرد احتجاج، بل فعل مقاومة مدنيه لحماية حق أساسي يهدد غيابه الحياة والكرامة معًا.
ختاما إذا كنا جادين في الحديث عن تنمية وصمود واستقرار، فعلينا أن نبدأ من الأساس: ضمان وصول المياه للجميع بعدالة. فالمجتمع الذي يعيش عطشانًا لا يمكن أن ينهض.