الصناعةُ الخضراءُ: مدخلٌ للعدالةِ البيئيةِ في فلسطين

في زمنٍ تتصدّر فيه قضايا المناخِ والبيئة الأجندةَ العالمية، تبرز "الصناعةُ الخضراءُ" [1]في الحالةِ الفلسطينيةِ ليس كمجرّد توجّهٍ يخدمُ البُعدَ البيئي فحسب، بل كخيارٍ استراتيجيٍّ لتثبيتِ الحقيقةِ الفلسطينيةِ في الخطابِ البيئيِّ العالمي، وكرافعةٍ لبناءِ نموذجٍ تنمويٍّ مستدامٍ، يتّكئُ على العدالةِ البيئيةِ[2]. تقومُ هذه الرؤيةُ على فَهمٍ حضاري للعلاقةِ بين الإنسانِ والأرضِ، باعتبارها علاقة تكاملية. فالشعبُ الفلسطينيُّ يُعدّ كينونةً يسكنُها المكانُ، ويخوضُ صراعاً وجوديّاً ضدَّ منظومةٍ استعماريةٍ تُعمّقُ الاختلالَ البيئي وتُراكِم الظلمَ التاريخي.
يُشكّلُ الاستيطانُ الإسرائيليُّ جريمةً بيئيةً[3] بامتياز، نظراً لتعارضِهِ الصارخ مع القواعد الأساسية للقانونِ الدوليِّ، وتقاطُعِهِ مع مظاهرِ الفصلِ العنصريِّ البيئي[4]. فالتوحّشُ الاستيطاني لا يُعدّ مجرد انتهاك عابر يُقوّض سُبلِ عيشِ الفلسطينيينَ ويُعيد تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا، بل هو مشروع اقتلاع دائم يستند إلى منظومة بطشية متكاملة[5]. ويُعمّقُ جدارُ الفصلِ العنصريُّ من آثارِ العزلِ الإيكولوجيِّ[6]، بينما تُجسد الحربُ المستمرّةُ على غزّة أبشع صُوَرِ الإبادةِ البيئيةِ[7] في العصرِ الحديثِ على الإطلاق. كلُّ ذلكَ يستدعي قراءةً نقديةً ضمنَ إطارِ سرديّة الحقِّ البيئيِّ الفلسطيني.
أعلنت العديدُ من الدولِ، ومن ضمنِها دولُ الاتحادِ الأوروبيِّ، موقفَها الرافضَ للاستيطانِ. في هذا الإطارِ، قد تتاحُ لنا مساحةٌ قانونيةٌ وأخلاقيةٌ ليس فقط لتدويلِ الانتهاكاتِ الاستيطانيةِ، بل وربطِها بالمنظومةِ القانونيةِ الخضراءِ العالميةِ، أُسوةً بتجربةِ جنوبِ أفريقيا في مواجهةِ نظامِ الفصلِ العنصريِّ. وفيما يلي موجزٌ لعددٍ من الاتفاقياتِ البيئيةِ الدوليةِ التي يمكنُ الاستنادُ إليها قانونيّاً وأخلاقيّاً لدعمِ هذا التوجّهِ:
الميثاقُ الأخضرُ الأوروبي (European Green Deal -2019) : ينصُّ على ضرورةِ دمجِ المعاييرِ البيئيةِ في السياساتِ التجاريةِ والعلاقاتِ الخارجيةِ. وعليه، فإنَّ دعمَ الشركاتِ الأوروبيةِ للمستوطناتِ يُعدّ خرقاً لهذا الميثاقِ، ويستوجبُ تفعيلَ أدواتِ المساءلةِ القانونيةِ.
اتفاقُ باريس للمناخ (2015): يُشدّدُ على أهميةِ العدالةِ المناخيةِ، فيما يتمُّ تغييبُ الفلسطينيينَ عن التخطيطِ البيئيِّ ومنعُهم من الوصولِ لمواردِهم الطبيعيةِ، لا سيّما في (المناطقِ المصنّفةِ (C.
اتفاقيةُ الأممِ المتحدةِ الإطاريةُ بشأنِ تغيّرِ المناخِ (UNFCCC - 1992) : تُلزمُ الدولَ الأعضاء بحمايةِ الطبيعةِ والحدِّ من الأنشطةِ المسبِّبةِ لانبعاثاتِ الكربون، في حين أن الأنشطةَ الاستيطانيةَ (البناءُ، الطرقُ، المصانعُ الخطيرةُ) تُسهِمُ في تدميرِ البيئةِ وزيادةِ الانبعاثاتِ دونَ مساءلةٍ.
اتفاقيةُ بازل (1989): تحظرُ نقلَ النفاياتِ الخطرةِ والتخلُّصَ منها عبرَ الحدودِ، بينما تقومُ إسرائيلُ بتهريبِ نفاياتِها السامّةِ الصناعيةِ والطبيةِ إلى الضفةِ الغربيةِ بشكلٍ غيرِ قانونيٍّ.
تقوم سُلطةُ جودةِ البيئةِ في الحكومةِ الفلسطينيةِ بتوثيقِ الممارساتِ الاستيطانية والملوِّثاتِ البيئيةِ الناتجةِ عنها، وتزويدِ الأممِ المتحدةِ بتقاريرَ دوريةٍ. إضافةً إلى ذلك، من الضروري أن تعملَ جميع الوزاراتُ في الحكومةِ الفلسطينيةِ على دمجِ مبادئِ العدالةِ البيئية في خُططِها الاستراتيجية، باعتبارِ ذلك ركيزةً أساسيةً في المعركةِ القانونيةِ والسياسيةِ لمناهضةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ والتحدياتِ البيئيةِ الناتجةِ عنه، خصوصاً في ظلِّ وعود عددٍ من الدولِ بالاعترافِ بالدولةِ الفلسطينيةِ، وفي هذا الإطارِ، تُقدَّمُ التوصياتُ التاليةُ:
إعدادُ دليلٍ وطني كخارطةَ طريقٍ للنمو الأخضرِ، بما يتقاطعُ مع أهداف التنميةِ المستدامةِ 2030 التي تبنّتْها الحكومة الفلسطينية سابقا، والعمل على حماية البيئةِ لضمان استدامة الموارد.
تشجيعُ استخدامِ وحفظِ البذورِ البلديةِ الفلسطينيةِ لتعزيزِ الهوية والسيادة البيئيةِ والغذائيةِ، ويستدعي ذلك إنشاءَ بنكٍ وطنيٍّ للبذورِ البلديةِ، إلى جانبِ إطلاقِ حملاتِ توعيةٍ وتدريبٍ لدعمِ الزراعةِ البيئيةِ المستدامةِ.
التعاونُ مع منظماتٍ دوليةٍ خضراءَ مثل World Wide Fund for Nature و Climate Action Network تؤمنُ بالعدالةِ البيئيةِ لتمكينِ المؤسساتِ الفلسطينيةِ من توطينِ التكنولوجيا البيئيةِ وتبادلِ الخبراتِ.
دعوةُ الباحثينَ البيئيينَ الفلسطينيينَ في الوطنِ والشتاتِ لدمجِ قضايا العدالةِ البيئيةِ والاستيطانِ في أعمالِهم الأكاديميةِ.
التعاونُ مع شبكة "علماء من أجل العدالةِ البيئيةِ" لتقييمِ الأضرارِ الاستعمارية وتوثيقِ ظاهرةِ "الغسيل البيئيِّ"[8] للمستوطناتِ، وطرحِ الحالةِ الفلسطينيةِ كنموذجٍ للظلمِ البيئيِّ للمساءلةِ في المحافلِ الدوليةِ.
تطويرُ نظامِ معلوماتٍ بيئيةٍ (Environmental Information System – EIS) لرصد وتوثيقِ الانتهاكاتِ البيئيةِ الناتجةِ عن التوسّعِ الاستيطانيِّ باستخدامِ صورِ الأقمارِ الصناعيةِ، لتوفيرِ قاعدةِ بياناتٍ بعدّةِ لغاتٍ.
في هذا السياقِ، تبرزُ أهميةُ التشبيكِ الدوليِّ في تمكينِ التحوُّلِ الصناعيِّ الأخضرِ، ليس فقط من خلالِ التمويلِ المباشرِ، بل أيضاً عبرَ بناءِ شراكاتٍ تُعزّز من مفاهيمِ السيادةِ البيئيةِ والتنميةِ الاقتصاديةِ المستدامةِ. في هذا الإطارِ، أطلقت المؤسسةُ الألمانيةُ للتعاونِ الدوليِّ (GIZ) بالتعاونِ مع الاتحادِ الأوروبيِّ مشروعَ "النمو الأخضر – فلسطين 2025"، الذي يهدفُ إلى تقديمِ حلولٍ ومقترحاتٍ للشركاتِ الفلسطينيةِ لمساعدتِها في التحوُّلِ نحو الاقتصادِ الأخضرِ. كما أطلقت بلجيكا مشروع "Green Palestine 2025" الذي يُعزّزُ سلاسلَ القيمةِ الخضراءِ في مجالاتِ الزراعةِ العضويةِ، وتدويرِ البلاستيكِ والنفاياتِ. قد تُعتبَرُ هذه المبادراتُ الدوليةُ منفذاً عمليّاً لترسيخِ مبدأٍ عالميٍّ لدعمِ الطبيعةِ الفلسطينيةِ كجزءٍ من العدالةِ البيئيةِ الكونيةِ، خاصّةً في ظلِّ ما يُشكّله الاستيطانُ من جريمةٍ بيئيةٍ تحرمُ الفلسطينيينَ من حقِّهم في التنميةِ المستدامةِ. كما يُمكنُ أن تُشكّلَ هذه الشراكاتُ أيضاً تمهيداً عمليّاً لمحاسبةِ الشركاتِ الأوروبيةِ المتورّطةِ في مشاريعِ المستوطناتِ انسجاماً مع الميثاقِ الأخضرِ الأوروبيِّ.
تعد الصناعةَ الخضراءَ في فلسطينَ أكثر من خيار تقنيّ أو اقتصاديّ: انها شكل من اشكال المقاومةٍ لوجودٍ لا يُمحى. فمن خلالِ الدمجِ بين الحقِّ البيئيِّ والحقِّ السياسيِّ، يمكنُ للفلسطينيين أن يتحولوا من ضحيةٍ إلى شريك فاعل في تحالفٍ عالميٍّ يسعى لتحقيق العدالةِ البيئية. كذلك يعزز هذا التوجه من تعريف فلسطين ككيان مؤهل لممارسة وظائف الدولة بشكل كامل وفقا للقانون الدولي. ان الصناعة الخضراء في فلسطينَ هي في جوهرِهِا استثمارٌ في الحريةِ، والعدالةِ، والضميرِ الأخلاقيِّ الإنسانيّ، والسيادة البيئيةِ[9]. مع ذلك، قد لا تُمدّ إلى الفلسطينيين أي يدٌ من بعيد، إن لم تمتدّ أياديهم أولًا نحو بيئتهم: يحمونها من التلوّث، يصونون مواردها، ويُعيدون إليها خُضرتها.
[1] الصناعةُ الخضراء: نموذجٌ إنتاجيٌّ مستدامٌ يدمجُ الأبعادَ البيئيةَ والاجتماعيةَ، ويعتمدُ على مواردَ متجدّدةٍ (مثل: الشمسِ، والماءِ، والنفاياتِ القابلةِ للتدويرِ). يهدفُ إلى تقليلِ التلوّثِ، وخفضِ التكاليفِ، وتحسينِ جودةِ الحياةِ. (يشمل: الزراعةَ الذكيّةَ، الطاقةَ الشمسيّةَ، إعادةَ التدويرِ، تصنيعَ الأغذيةِ الطبيعيةِ، تكريرَ المياهِ، وتحويلَ النفاياتِ إلى طاقةٍ). وينطبق نفس المفهوم على بقية المصطلحات الخضراء مثل الاقتصاد الأخضر والنمو الأخضر وغيرها، حيث تهدف جميعها إلى تحقيق التنمية المستدامة.
تُسجِّلُ فلسطينُ ما يزيدُ عن ٣٠٠ يومٍ مشمسٍ سنويّاً، بمعدّلِ إشعاعٍ يصلُ إلى ٥.٤ كيلو واط/مترٍ مربّع (المصدر: PENRA (Annual Energy Report 2023.
حاليًّا، يُعادُ تدويرُ أقلّ من ١٥٪ من النفاياتِ المُنتجةِ، ما يعكسُ فجوةً كبيرةً وفرصةً للنموّ). المصدر: تقرير سلطة جودة البيئة ٢٠٢٢(.
تُشيرُ دراساتٌ محليّةٌ إلى أنّ تقنياتِ الريّ بالتنقيط تُخفّضُ استهلاكَ المياهِ بنسبةٍ تصلُ إلى ٤٠٪ مقارنةً بالطرقِ التقليديةِ. (المصدر: مركز أبحاث الأراضي. (
هناك أكثرُ من ١٠ مواقع تُستخدَم كمكَبّاتِ نفاياتٍ صناعيةٍ وطبيّةٍ إسرائيليةٍ في الضفةِ الغربيةِ، منها مكبُّ جيوس ومكبٌّ قربَ بلدةِ يعبد ) . المصدر: تقارير مركز أبحاث الأرض ومؤسسة الحق(.
2 العدالةُ البيئيةُ: (Environmental Justice) حمايةُ الجميعِ من المخاطرِ البيئيةِ، بغضِّ النظرِ عن خلفياتِهم العرقيّةِ.
3 الجريمةُ البيئيةُ:(Environmental Crime) إلحاق الضّررُ بالطبيعةِ، مثل قطعِ الأشجارِ غيرِ القانوني، أو دفنِ النفاياتِ السامّة، أو إنشاءِ كساراتٍ عشوائيةٍ يشغّلها الفلسطينيون في ظلال الاحتلال (مناطق (C.
4 الفصلُ العنصريُّ البيئيُّ: (Environmental Apartheid) التمييز وحرمان الفلسطينيون من في الوصولِ إلى مياههم وأراضيهم.
5 منظومة بطشية متكاملة: الاعتداء الجسدي على المزارعين، مصادرة الأراضي، وضع بوابات وحواجز على الطرق، تدميرَ الغطاءِ النباتيِّ بالجرف والحرق وإطلاق الخنازير والرعي التخريبي، نهبَ مصادرِ المياهِ، وطرح الملوِّثاتِ والنفاياتِ السامّةِ، تخريب المحاصيلُ الزراعية، قتل وسرقة المواشي، تكسير أو فرض قيود على أنظمة الطاقة البديلة، وغيرها.
6 العزلُ الإيكولوجي (Ecological Isolation) : فصلُ السكانِ عن بيئتِهم ومواردِهم الطبيعيةِ نتيجةَ ممارساتٍ قسريةٍ مُمنهَجةٍ.
7 الإبادةُ البيئيةُ:(Ecocide) تدميرٌ شاملٌ للنُّظمِ البيئيةِ، كما هو الحالُ في العدوانِ على غزّةَ.
8 الغسيلُ البيئيُّ(Greenwashing) : استخدامُ الشركاتِ أو الحكوماتِ للدعايةِ الخضراءِ لإظهارِ أنفسهم كمهتمّينَ بالبيئةِ.
9 السيادة البيئية: (Environmental Sovereignty) السيادة الوطنية وحقوق الدولة في وإدارة مواردها البيئية،
(سنكون يوماً ما نريد ...لا الرحلة ابتدأت.... ولا الدرب انتهى... "محمود درويش").
حسين حجاز
شيرين السيد
19-8-2025