الترقيع

كانت الأمهات والجدات في الأسر، خاصة في البيئات الفقيرة ، يلجأن إلى ترقيع ملابس الأطفال غالباً بدوافع اقتصادية. من أبرز هذه الأسباب الفقر وضيق الحال، إذ كانت الأسر تعاني من محدودية الموارد المالية، فلا تستطيع شراء ملابس جديدة مع كل تمزق أو اهتراء. وفي مثل هذه الظروف، كان الترقيع وسيلة اقتصادية لإطالة عمر الملابس والحفاظ على ما هو متاح لأطول فترة ممكنة ، خاصة إذا كانت الأسرة من كثيري الأطفال .
إلى جانب ذلك ، لعب شح المواد وصعوبة الحصول على الملابس الجاهزة دوراً كبيراً، في ذلك ، فلم يكن شراء بدائل أمراً سهلاً، فكان الترقيع حلاً عملياً وضرورياً. كما ارتبط الترقيع بثقافة التدبير المنزلي التي كانت سائدة، حيث كانت الجدات والأمهات يفتخرن بقدرتهن على إدارة شؤون البيت بحكمة، وإعادة استخدام الأقمشة والمواد المتوفرة بدلاً من إهدارها.
هذه المقدمة هي عبارة عن كناية للمثل الشعبي الفلسطيني القائل " وهل يصلح العطّار ما أفسده الدهر"، والمعبر عنه سياسياً بـ"الترقيع السياسي" ، والذي يعتبر من الظواهر التي تتكرر في البيئات السياسية المعاصرة ، خصوصاً في النظم السياسية التي تواجه أزمات بنيوية أو ضغوطاً داخلية وخارجية تدفعها إلى البحث عن حلول سريعة ومؤقتة بدلاً من تبني إصلاحات جذرية، والذي قد يهدد مصالح الطبقة الحاكمة، ويقصد به لجوء الطبقة الحاكمة إلى إدخال تعديلات جزئية أو اتخاذ إجراءات شكلية تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي أو تهدئة الضغوط الدولية فضلاً عن غياب الإرادة السياسية للإصلاح الجذري نتيجة تشابك المصالح السياسية والاقتصادية. دون معالجة الأسباب العميقة للأزمة أو المساس بجوهر الاختلالات الهيكلية.
ورغم أن "الترقيع السياسي" قد يحقق في المدى القصير تهدئة للأوضاع أو إرجاء للانفجار الاجتماعي، وقد يوفر مخرجاً مؤقتاً ويمنح النظام السياسي فرصة لالتقاط الأنفاس ، إلا أن آثاره طويلة الأمد سلبية في الغالب، حيث يسهم في تآكل الشرعية السياسية نتيجة وعي المواطنين بغياب التغيير الحقيقي، ويعيد إنتاج الأزمات بسبب بقاء الأسباب الجذرية بلا معالجة، ويعمق فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع بإضعاف المؤسسات، ويعزز بقاء النظم السلطوية التي تستخدمه كأداة لإطالة عمرها.
يمكن النظر إلى "الترقيع السياسي" من زاويتين رئيسيتين ، الأولى وظيفية، ترى فيه آلية مؤقتة للحفاظ على استقرار النظام ومنع الانهيار المفاجئ، حيث تعمل الإجراءات الجزئية كصمامات أمان تمنح الطبقة الحاكمة وقتاً لإعادة ترتيب أوراقها. أما الثانية فهي نقدية بنيوية تعتبره انعكاساً
لأزمة شرعية وإخفاقاً في الإرادة السياسية للإصلاح، إذ يُستخدم كوسيلة لإعادة إنتاج السلطة الحاكمة وتثبيت بنيتها القائمة ، مع إقصاء أي مسار حقيقي للتحول الديمقراطي أو المشاركة الشعبية.
تتخذ هذه الظاهرة أشكالاً متعددة بحسب السياق السياسي، من بينها التعديلات الدستورية الجزئية التي تقتصر على مادة أو اثنتين بهدف إرضاء الشارع أو تلبية شروط مانحين دوليين، من دون إعادة النظر في البنية الدستورية برمتها. كما تشمل تغييرات حكومية سطحية تستبدل فيها وجوه وزارية مع الإبقاء على النهج السياسي نفسه ، وسن قوانين إصلاحية ظاهرية تفرغ من مضمونها عند التطبيق ، إضافة إلى إطلاق حوارات وطنية أو لجان إصلاح بلا صلاحيات فعلية ، تستخدم لامتصاص الغضب أو تحسين صورة النظام أمام الخارج.
من المهم التمييز بين "الترقيع السياسي" والإصلاح الحقيقي ، فالأمر بالغ الأهمية لفهم ديناميكيات العمل السياسي ولتحديد مدى قدرة أي نظام على التغيير المستدام . فالإصلاح السياسي ، في جوهره ، عملية شاملة وممنهجة تستهدف معالجة المشكلات من جذورها، وتتسم بالشمولية في تغطية مختلف الجوانب المؤسسية والقانونية والإجرائية التي تؤثر على بنية النظام. وهو يقوم على مأسسة التغيير، أي صياغة سياسات وتشريعات وإجراءات تضمن استمرارية الإصلاح بغض النظر عن تغير الأشخاص أو الحكومات. ويكون الإصلاح كذلك مشبعاً بالمشاركة المجتمعية الحقيقية، حيث تشترك مختلف الفئات والقطاعات ،المجتمع المدني، والنقابات، والأحزاب، والمجموعات المهمشة، ذوي الاحتياجات الخاصة ، المرأة ، الشباب ، في صياغة الأولويات ومراقبة التنفيذ، ما يعزز من شرعيته الاجتماعية والسياسية. كما أن الإصلاح الفعلي يترك أثراً مستداماً على بنية النظام السياسي، فيعيد توزيع السلطة، ويقوي مؤسسات الرقابة والمساءلة، ويوسع قاعدة المشاركة الشعبية، بما يحد من احتمالية العودة إلى الممارسات السابقة.
أما "الترقيع السياسي"، فهو على النقيض من ذلك، يقتصر على خطوات محدودة ومؤقتة لا تمس البنية العميقة للنظام، بل غالباً ما تكون مجرد رد فعل على أزمة طارئة أو ضغط خارجي أو داخلي، دون وجود رؤية إستراتيجية بعيدة المدى. ويعتمد الترقيع على حلول تجميلية، مثل تعديل مادة قانونية دون إصلاح شامل للإطار التشريعي، أو تغيير بعض الوجوه في السلطة دون تغيير السياسات أو آليات صنع القرار. هذه الإجراءات، وإن كانت قد تمنح النظام فسحة زمنية لتخفيف الضغط، فإنها تظل مرتبطة باعتبارات تكتيكية آنية، وغالباً ما تهدف إلى امتصاص الغضب أو تحسين الصورة أمام المجتمع الدولي، بدلاً من إحداث تحول حقيقي.
الإصلاح الحقيقي يستند إلى إرادة سياسية واعية، تعي أن بقاء النظام واستقراره على المدى البعيد يعتمد على تجديد العقد الاجتماعي وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع. هذه الإرادة تنبثق عادة من إدراك صانعي القرار أن تكلفة الجمود والمماطلة أكبر من تكلفة التغيير. أما الترقيع، فيرتكز على
عقلية إرجاء الحلول، والاكتفاء بإدارة الأزمات بدلاً من حلها، ما يؤدي إلى تراكم المشكلات وتعقيدها.
يمكن القول إن الإصلاح الحقيقي هو مشروع وطني طويل الأمد، يغير قواعد اللعبة ويعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطن، بينما "الترقيع السياسي" ليس سوى أداة لإطالة عمر الأزمة وإعادة إنتاجها في أشكال جديدة . والخلط بين الاثنين لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الجمود، وإضاعة فرص التحول الديمقراطي والتنمية السياسية المستدامة.
من هنا فإن "الترقيع السياسي" يعكس في جوهره أزمة في بنية الحكم، ويكشف عن قصور قدرة النظم على التكيف مع التحولات المجتمعية دون المساس بأسس السلطة القائمة. وإذا كان يحقق أحياناً تهدئة آنية، فإنه يترك الأزمات البنيوية تتراكم بما ينذر بانفجار أكبر مستقبلاً. لذا، فإن تجاوز منطق الترقيع نحو مسار إصلاحي حقيقي يتطلب إرادة سياسية صادقة، وإشراك مختلف الفاعلين، وتكريس الشفافية والمساءلة، بما يضمن استقراراً سياسياً مستداماً قائماً على الشرعية والمشاركة.
لذلك فإن "الترقيع السياسي" أو "الحلول الترقيعية" مهما تنوعت أشكاله أو تبدلت ذرائعه، يبقى مجرد مسكّن مؤقت لأزمات عميقة، لا يداوي العلة ولا يمنع تفاقمها. إن استمرار الارتهان لنهج التعديلات الجزئية والحلول السطحية لن يقود إلا إلى إطالة عُمر الأزمة وتكريس بنية مختلة عاجزة عن الاستجابة لتطلعات الشعب. إن اللحظة الراهنة تفرض علينا الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق صناعة التحول، عبر مشروع إصلاحي وطني شامل يقوم على الإرادة السياسية الصادقة، والمشاركة المجتمعية الواسعة، والمأسسة الراسخة للتغيير، بما يعيد الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم، ويؤسس لنظام سياسي متجدد قادر على مواجهة تحديات الحاضر وصناعة مستقبل يليق بفلسطين وشعبها.
وإذا ما عدنا للجدات والأمهات كيف كن يقمن بترقيع سراويل الأطفال ، حتى إنك كنت ترى أحياناً أن ألوان الرقع المختلفة قد غلبت على اللون الأصلي للقماش. ومع تكرار الترقيع، ومع غياب حد أو توقيت للتوقف عنه، يصبح لون الرقع هو السائد، فيما يختفي اللون الأصلي تماماً، فلا يعود أحد يتذكر مظهر السروال كما كان أول مرة.
وهذا المشهد البسيط يمكن أن يكون استعارة دقيقة لما يحدث مع النظام السياسي حين يطغى عليه "الترقيع السياسي" المستمر. فعندما تتحول الإصلاحات المؤقتة إلى بديل عن المعالجات الجذرية، وتصبح الحلول السطحية نهجاً ثابتاً، فإن ملامح النظام السياسي الأصلي تبدأ بالتلاشي شيئاً فشيئاً. ومع مرور الوقت، لا يعود المواطنون وحدهم من يواجهون صعوبة في تمييز شكل النظام وهويته الحقيقية، بل حتى النخب الأكاديمية، والفقهاء الدستوريون، والمثقفون، يجدون
أنفسهم في حيرة من أمرهم، يتجادلون حول ماهية هذا النظام، وأي نموذج يعكسه، وما إذا كان لا يزال وفياً مستنداً للدستور وملتزماً به أم صار كياناً هجيناً فاقد الملامح.
وأبعد من ذلك، فإن الترقيع لم يكن في كثير من الأحيان مجدياً، لأن الثوب نفسه كان قد وصل إلى مرحلة لم يعد يحتمل معها أي رقعة جديدة، فقد أنهكته السنين، وأرهقته الخياطات المتكررة، حتى صار بالياً ورثاً، لا يجدي معه سوى الحل الجذري، وهو "التجديد" الكامل. من خلال شراء ثوب جديد وفي تلك اللحظة، لم يكن التركيز على نوع القماش أو فخامته، بقدر ما كان الهدف الأساسي أن يؤدي الغرض ويستر، ولو بالحد الأدنى.
وهذه الصورة تنطبق تماماً على واقعنا السياسي اليوم. فنظامنا السياسي، الذي أنهكته سنوات الانقسام والتجاذبات والمساومات الجزئية، لم يعد يحتمل المزيد من الترميمات المؤقتة أو الإصلاحات الشكلية. لقد بات بحاجة إلى تجديد شامل، لا يقتصر على تغيير الواجهة أو إعادة طلاء الجدران، بل يمتد إلى إعادة صياغة الأسس والقواعد التي يقوم عليها، بما يضمن أن يكون أكثر قدرة على الاستجابة لتطلعات شعبنا، وأكثر كفاءة في مواجهة التحديات التي تعصف بقضيتنا.
لكن هذا التجديد المنشود يجب أن يتم بخيوط فلسطينية صرفة، وبغزل من نسيجنا الوطني، وبحياكة أيدينا نحن، لا بأيدٍ خارجية، فعلينا أن نصوغ نظاماً سياسياً يتسع للجميع، ويقوم على قاعدة الشراكة الوطنية الحقيقية التي لا تقصي أحداً، وتمنح كل مكوّن من مكونات شعبنا دوراً أصيلاً في صياغة القرار الوطني. نظام يفتح الأبواب أمام مشاركة الشباب، ويحفظ مكانة المرأة، ويعطي لكل فصيل ولكل تيار مساحة عادلة للتعبير والمساهمة، بعيداً عن الاحتكار والإقصاء.
إن تجديد النظام السياسي لا يستدعي إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية أو تجاوز دورها، كما أن التجديد ليس ترفاً ولا خياراً مؤجلاً، بل هو ضرورة وجودية لحماية مشروعنا الوطني من التآكل، ولضمان أننا نسير نحو التحرر بخطى واثقة، وببوصلة واحدة، وبجسد سياسي موحد قادر على مواجهة العواصف. تماماً كما أن الثوب الجديد يمنح صاحبه مظهراً لائقاً وقدرة على مواجهة أيامه بكرامة، فإن نظاماً سياسياً متجدداً ومتين النسيج هو ما سيمنحنا القدرة على مواجهة الاحتلال، وصون حقوقنا، وصياغة مستقبل يليق بتضحياتنا.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحن الفلسطينيين أمام مسؤولية تاريخية كبرى تدعونا إلى الجلوس معاً على طاولة الحوار الصادق والمفتوح، لنرتقي فوق الجراح والانقسامات، ونعمل على صياغة برنامج وطني جامع يمثل الإجماع الفلسطيني بكل أطيافه، ويضع أمامنا أهدافاً واضحة، وأدوات وآليات عملية تقربنا من تحقيق مشروعنا الوطني التحرري. إن الاستقلال والحرية لا يمكن أن ينتزعا ونحن متفرقون، مشرذمون، ينهش بعضنا ثقة الآخر، ويشكك أحدنا في نوايا الآخر.
إن وحدة الصف ليست خياراً تكميلياً، بل شرطاً جوهرياً لأي مشروع وطني جاد. فلا يملك أي فرد أو فصيل الحقيقة المطلقة، كما لا يحق لأي طرف أن يحتكر الانتماء أو الولاء لفلسطين، فهي ملكٌ مشترك لنا جميعاً، أرضاً وتاريخاً وهوية ومستقبلاً. إننا، بمختلف مشاربنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، أصحاب حق أصيل، ودماء شهدائنا وتضحيات أسرانا وجرحانا أمانة في أعناقنا جميعاً، تتطلب أن نرتقي بخطابنا وممارستنا إلى مستوى التحديات التي تواجهنا.
لقد آن الأوان لأن ندرك أن الانقسام والارتهان للخارج لم يجلب لنا سوى المزيد من الضعف، وأن العالم لا يحترم إلا من يحترم نفسه ووحدته، وأن قوتنا الحقيقية تكمن في وحدتنا، وفي قدرتنا على بناء جبهة داخلية متماسكة قادرة على مواجهة الاحتلال ومخططاته، والدفاع عن حقوق شعبنا في كل الساحات السياسية والدبلوماسية والميدانية. فلنضع خلافاتنا جانباً، ولنتسلح بالإرادة السياسية والشجاعة الوطنية لنصوغ معاً مستقبلنا المشترك، ففلسطين أكبر من أي خلاف، وأقدس من أن تُختزل في صراعات داخلية، أو تُستنزف في نزاعات فئوية وحزبية ضيقة تحكمها المصالح الآنية والحسابات الصغيرة، بدل أن تتوجه طاقاتنا نحو العدو الحقيقي الذي يستهدف أرضنا ووجودنا وحقوقنا التاريخية .إن فلسطين أكبر من الأحزاب وأسمى من الانقسامات ، فهي قضية شعب بأسره ، وليست ورقة في يد أحد .