منهج التفكير و التحليل السياسي للأحداث

من المهم بين الفترة والأخرى التعرض لأفكار أو مفاهيم ومواقف وكذلك لتصريحات محددة من قبل القيادات السياسية عامة والحركية خاصة. ومن الضروري الاطلاع دون ارتباك بالفهم على مضامين هذه الخطابات والمواقف لما لها من إسهام في تحقيق أسُس التحليل السياسي السليم الذي يعتمد من ضمن نقاط أخرى على “تحديث” البيانات والمعلومات، والمواقف السياسية، وإعادة النظر والتبصّر والرؤية ثم إعادة صياغة الأفكار، وأيضًا النظر في المستجدات والمتغيرات في ضوء الهدف المطلوب تحقيقه.
نظام التحليل
إن عوامل التفكير المرتبطة بعملية التحليل السياسي (وغير السياسي، ممكن التنظيمي، وممكن الاجتماعي، وممكن في فهم الشخصيات…الخ) تضغط على المحلّل السياسي أن يتخذ منهجًا محددًا بالتحليل فهذا منهج علمي يعتمد على مجموعة من المباديء.
لكن اتخاذ الأسلوب العلمي المتسلسل يعتمد على مُدخلات متنوعة، ومختلفة وربما متناقضة ووجوبًا من المهم أن تكون محدّثة. ومن الأفضل أن تكون على ألسنة صانعي السياسة أو متخذي المواقف والقرار وهنا يتخذ التحليل السياسي مساره الصحيح نحو الدقة.
إن عملية التحليل السياسي نظام متكامل كما الحال مع الحاسوب حيث المُدخلات الصحيحة تؤدي الى مُخرجات صحيحة أو قريبة من الصحة، في ظل تعدد الخيارات (السيناريوهات) والاحتمالات، وفي ظل العملية الوسيطة بين المدخلات والمخرجات أي المعالجة العقلية، وهذه المعالجة هي القدرة العقلية الفاهمة والواعية والقادرة على رؤية المستجدات والمتغيرات والتزام إدخالها ليحصل التحليل ثم الاستنتاج.
يقول د.مهند العزاوي “تبتعد فلسفة التحليل السياسي عن التضخيم والتبسيط والمبالغة في ضرب الأمثلة لتأكيد الرأى ، كما تبتعد عن اللغة العاطفية ، كما تبتعد عن التوجيه المباشر أو الخطابة أو الإقناع بالتخويف أو إطلاق الاتهامات دون بحث ومعلومات”.
إن عملية إعادة التفكير وإعادة الحسابات عملية متواصلة، فالمتغيرات المتحكّمة بالمواقف السياسية غير ثابتة، لذلك هي متغيرات! فلست وحدي كفلسطيني من يتحكم بالأمور خاصة بقضية مثل القضية الفلسطينية المعقّدة التي تحكمها قسرًا العوامل الداخلية الوطنية، وعامل العدوان الصهيوني الذي لا يتوقف، وتلك العوامل العربية والاقليمية، والدولية الاستخرابية (الاستعمارية) عوضًا عن عوامل القوى والمعسكرات.
إن حُسن النظر للأمور خاصة في الواقع السياسي، وإعادة النظر كل فينة وأخرى، ونقد الذات ومواقف الذات (الذات الشخصية أو السياسية أو المرتبطة بالدولة…) وحتى ذاك التحليل من شهر مضى في ظل فهم الثوابت من جهة ورؤية التغيرات والتحديثات (ضرورة النظر بالإحصائيات والاستطلاعات وطبيعة مصادر الاخبار دومًا…) يعني أن القائد قادرعلى فعهم المتغيرات. وإلا فإنه يصبح كالأعمى أوالتائه ، أو حتى الجاهل يسير داخل شرنقته الأولى دون القدرة على الخروج منها لأنه كتّف نفسَه في أكوام من المعلومات القديمة، وربما غير الموثّقة، وغير المتجددة.
مناهج التفكير
إن منهج النظر الفكري كما يقول المفكر الكبير خالد الحسن قد يكون مرتبطًا بالتاريخ، وهو المنهج الماضوي حيث المقارنات الدائمة مرتبطة بماضٍ تليد أو بسياقات تاريخية واعتبارها مجال النظر والتحليل والرؤية المستقبلية، وكأن التاريخ يطلب القصّ واللصق أو كأنه يجوز فيه عدم الاتعاظ وأخذ العبرة والحكمة.
وهناك المنهج الفكري القضائي الذي يؤمن بالصواب والخطأ والأسود والأبيض وأنا على حق وأنت على باطل فقط، (مدرسة الفسطاطين أو المعسكرين) وهذا فهم فكراني (أيديولوجي) مختلف عن الفهم السياسي لتحقيق المصالح وبالتالي فإن الفهم السياسي متغير.
اما المنهج الفلسفي في التفكير فهو الذي يربط الحدث أو الموقف بالكون والعالم وربما أحيانًا بنظرية المؤامرة أو الأساطير أو القضايا الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) حيث الأساطير والأحلام والخرافات تظهر كما حالة الإرهابي رئيس الوزراء الصهيوني “نتنياهو” الذي يريد تحقيق وهم إسرائيله الكبرى استنادًا لأساطير تاريخية توراتية رغم أن التوراة سقطت كمرجع تاريخي عند معظم المؤرخين والآثاريين الكبار. أو كما هو الحال لدى كافة الفِرق أو التنظيمات التي تستقى الخرافات والأساطير من التوراة.
ويأتي منهج التفكير العقلاني الواقعي أو السياسي الواقعي المرتبط بأدوات البحث العلمي الذي يؤمن بالمتغيرات عبر الزمن والاحداث، والسياقات والمصالح المتبادلة، ومن حيث تحقيق الأهداف الواقعية.
قد تتضارب الرؤية عند أصحاب المبادئ والقيم حين يرون أن المصالح (الاقتصادية، والتجارية والشخصية والسياسية، والهيمنة والتوسع، والنزق الفردي، والحفاظ على الكرسي…) تتجاوز القيم والأخلاق والمبادئ-المفترض أنها مرجعية ثابتة-وتقفز فوق الأخلاق عند غالب الدول وعند عديد الشخصيات، وفي ظل هذا التضارب قد ينكمش صاحب المبادئ ويبتعد فيخلي المساحة للانتهازيين والمتسلقين وما أكثرهم، وعليه فإن فهم الفكر الواقعي السياسي يجب أن يكون مرتبطًا بثابت عدالة الحق والقضية لدينا من جهة وبمتغير الظروف الداهمة والنفاد من فسحة في الجدار عبر بدائل قد تحقق الهدف أو أجزاء منه ضمن عقلية الطريق الطويل وتراكم الإنجازات.
سلم التحليل السياسي
نحن كأشخاص واعين وكوادر سياسية متقدمة نفترض أن الواقعية السياسية هي المنطق السليم المرتبط حين التحليل بالموازين أو المقاييس. وفي محاضرات سابقة لنا وكتابات كنا قد أشرنا لأسس أو سلّم التحليل السياسي في 13 نقطة كالتالي
1) التنبّه والإدراك (للقضية أو المشكلة أو الموقف)، وذلك بعد الاعتراف بها (بوجودها) أصلًا. ثم 2) جمع المعلومات أو تحديثها وتنخيلها (في ظل سيل البيانات والمعلومات المتدفقة عبر وسائط التواصل حديثًا والتي قد يكون لكثرتها ضلال إن لم يتم تنخيلها وفلترتها، كما الحال بالمعلومات الاستخبارية). ثم 3) توصيف القضية وتعريفها جيدًا. وعليه معرفة 4) حجم القضية وتأثيرها (بالدوائر القريبة والبعيدة). ثم 5) تأكد من الوضوح، وراجع التوصيف. ولنقل 6) افهم وحدد المؤثرات الإيجابية والسلبية والاستراتيجيات. وقم 7) حدد المعسكرات ومن معك ومن ضدك ومَن المحايد. وأيضًا 8) عوامل القوة والضعف لديك ولدى الآخر. ولتفهم جيدًا وبعقلانية 9) ما هي الأسباب. ثم 10) ركّب العناصر واطرح أشكال ربط جديدة، واستعرض بدائل المنطلقات. وعليه 11) حدد رؤيتك للقضية = نتيجة التحليل = الرأي. وبالختام 12) الكتابة والمراجعة. ثم 13) اعرض البدائل المحتملة (السيناريوهات).
العوامل المؤثرة بالتحليل السياسي، ونكبة فلسطين في غزة
دعونا هنا نحدّث أفكارنا ونبلور المفهوم بشكل ربما يكون جديد بالعوامل الخمسة الهامة التالية عند القيام بأداة/أسلوب التحليل السياسي
أولًا تحديد الثقل (العامل، الضاغط) الأساس للقضية، الموقف، المشكلة بعد حُسن فهمها أصلًا، بالتحليل الذي قد يكون واحدًا أو أكثر (مثلًا بموضوع العدوان الفاشي على فلسطين والإبادة الجماعية من بوابة غزة هل الثقل المتحكم والهدف الأكبر لدى المعتدي الصهيوني هو شخص نتنياهو؟ أم تدمير الحياة في غزة، أم إنهاء حكم حمااس…أم تدمير حلم تحرير أو استقلال دولة فلسطين، وتهجير الشعب الخ)
ثم ثانيًا وجوب حُسن فهم وتقدير عوامل قوتنا وعوامل ضعفنا، وحجمنا الحقيقي بلا تزييف الفضائيات (التي منها مَن يصور الأحداث وكأنها حرب بين جيشين عظيمين؟! والحقيقة أن الإنجازات الفردية لا تقارن بالقوة الساحقة الماحقة للعدوان الصهيو-أمريكي الا لناقص العقل والمغفل والعاطفي المأسور لأحلامه)، وتحديد متغيراتنا، وثوابتنا (وكيف أو متى يمكن تغييرها، ولمصلحة مَن حيث يظهر الشعب عاملًا ملزمًا لجعل صموده وثباته على الأرض هدف ذو أولوية على الفصيل أو ما سواه) استنادًا للهدف المطلوب تحقيقه ويمكن تحقيقه وضمن مراجعات دائمة للموقف.
وثالثًا تقدير وفهم عوامل قوة الخصم أو العدو (والحلفاء) ونقاط ضعفه (قد تكون متغيرة) والتفريق بناء على ذلك بين ثابت ومتغيرات الآخر/الخصم أو العدو، أو المعسكرات الحليفة أوالمناوئة أوالمحايدة ومتغيراته وهي ما يمثل الضغوط على صاحب القرار. ويتخذه المحلل وزنًا له اعتباره. (أنظر حالة انسحاب خالد بن الوليد في معركة مؤتة، وانظر الرسول (ص) حين وضع النساء والأطفال وكبار السن في حصن بني حارثة بالمدينة بعيدًا عن نيران الحرب في غزوة الخندق)
وماذا عن تقدير المفاسد والمنافع (مثلًا هل حياة الفلسطينيين في قطاع غزة هي أولوية؟! أم تواصل العمل المسلح الفردي والمتآكل هو الأولوية؟؟؟ هل نتوقف ونعتبر ما حصل حتى الآن جولة استنزاف، ونتوقف ثم يتبعها جولات أخرى وربما بأشكال أخرى؟ ضمن فهم وقاعدة أن الشعب أكبر من الفصيل؟! أم أن توقف الفصيل يعني نهاية العمل المسلح، وضعف الدور للفصيل وموقعه بالمعادلة وتحكمه وتسلطه! لذا على الشعب أن يموت في سبيل الفصيل ودوره؟! أوغير ذلك)
رابعا التحلي بالوعي والامتلاك للمنهج العقلي السليم، وحسن الإدارة والاعتراف بالخطأ، أو الخطايا، والقدرة على إعادة النظر، والنقد والمراجعة، واتخاذ القرار ببدائله. (وفي نموذج غزة يظهر من فصيل حماس د.أحمد يوسف بامتلاكه القدرة على تحديد السقطات، والتخطيء وليس تقديس للخطأ وضرب الرأس بالحائط، وطرحه للبدائل)
وخامسًا الإيمان بتغير المواقف بل وتغير الأهداف، وإمكانية التقدم أو التراجع لأن فهم ذلك جيدًا ومراقبة ذلك أساس حيث نرى هل تم زحزحة الثوابت أم مازلنا عند حدّ الفهم الواعي لثوابتنا (أو بالأحرى غاياتنا أو أهدافنا الكبرى) ومتغيراتنا وثوابت ومتغيرات الأطراف الأخرى. حيث لا ثبات بالواقع للعوامل المتحكمة بالأحداث في ظل مواقف متغيرة.
خلاصة:
في التحليل السياسي قد تبرز لدى البعض المقارنات، ولا تكون المقارنات مطلقة بل هي صحيحة بمنطق الاستفادة وبعقلية المراجعة وفهم الاختلاف فالخصوصيات قد تتغلب على العموميات من الأفكار، وطبيعة الظروف المعقدة قد لا يفيد فيها الرجوع للماضي، وطبيعة الأفكار والقيم السائدة لا تنفع حين النظر لحدث مضى وكأنه يحصل اليوم أو لحدث يحصل اليوم يتم مقارنته بما حدث بالأمس. بمعنى آخر أن التاريخ والماضي مهم للاستفادة ومهم لاستخلاص العبر ولكن بالتحليل السياسي هناك العقلية المنفتحة والعقل الحر القادر على الاستنباط والفهم المتجدّد فلا يجمد ولا يتحيز بل يشق طريقه نحو البدائل والخيارات.
خلاصة القول أن السياسة مياه متدفقة داهمة كالسيل، تركل الفكر التحليلي الراكد المطمئن للعوامل السائدة القديمة أو لنظريات أسطورية أو دعوات بلا قطران واعداد فاعل وإقدام منجز. والسياسة عاصفة شعواء ضد المستقر متى ما افترض القائد أو الحاكم او السلطان أنه منها بمنجاة، عبر تحالفات خارجية، أو مؤامرات داخلية وهو بذلك يفتقر للمنهج الصحيح وللعقل التحليلي السليم الذي هو عقل واعي متقد متحفز دومًا ينظر ويراقب كعين الصقر لأي متغير أو مستجد، فإما أن يكون له دور، أوإن أن يستعد لمواجهة المتغيربالتحليل والقرار والبدائل، فلا يركن لقاعدة الانتظار التي (يدلّعها) البعض اليوم تحت مسمى الصبر الاستراتيجي! أو بأكذوبة مصلحة الدولة ورفاه الشعب (التي تعني بالحقيقة ثبات الحاكم، والانصياع الكامل لسياسة المهيمن).
السياسة لا تحتمل الركود، وتكره الثبات بل هي متغيرة أبدًا-لتغير المصالح، ونَهَم قوى التغلّب والاستخراب على إدامة سطوتها- ولا ثبات فيها. وحيث الافتراض أن المباديء والقيم تحكم أصحاب العقيدة أو القومية الواحدة وجدنا ما يعاكس ذلك بالتطبيق العملي ما يفرض على القائد الحكيم فهم ذلك، وليس بالخروج من جبّته العقدية (الأيديولوجية) والمبدئية والسلوكية القيمية، وإنما بصقلها نظريًا وعمليًا، والاقتراب أكثر وأكثر من الناس الذين بدونهم لن تكون لأي قائد بحقيقة الأمر أية قيمة.